كانت عتّوقة1 عمّ الهادي تتهادى من
داخل الڨاراج إلى الزريبة الخلفية إلى البطحاء كدأبها منذ أن ميّزها عن غيرها من الدّجاجات
و حظاها بعنايته الفائقة و كرمه المبالغ، و ازدادت فرحته بها منذ أن بشّره
"البعرة ولد عبد الله" بتلك "العظمة فتوح"، حتى أنه أصبح
يفكّر جدّيا في الفحل المناسب.
و لعم الهادي هوَسٌ منقطع النظير
بالأنساب، يقول "الشّتلة هي السّاس" و "العرق دسّاس" و كانت
تقضّ مضجعه و تغرقه في الكآبة فكرة أن يتزوّج ميشلان من غير "بنت أصل"
يرضاها هو -الخبير بالأنساب، لذلك كان كثيرا ما يردّد على مسمع ابنه: "يا
ولدي شتلتنا قليلة، فتخيّرْ".
و بعد أن سأل و استفسر، دلَّهُ
بعض جلسائه على أحد المزارعين، و لنختصر الحديث، انتهى البحث بحصول عم الهادي على
ديك حسن الصّوت و الهيئة، بارز الصّدر، عظيم الفخذين، جميل العرف، في ريشه ألقٌ و
ذيله كامل الصّفات، "لا يؤذّن الديك إذا كان منتوف الذّيل،" كان يقول.
و لنختصر هنا أيضا، صارت العتّوقة
دجاجة كاملة الصفات ترفلُ في ألوانها و في النعمة التي يُغدقها عليها الشّيخ، و
صار ينتظر بفارغ الصبر كل صباح صوتها و هي "تُحَمّقُ" معلنة ولادة
البيضة الجديدة.
خلال تلك الأيام كانت كل بيضة
تأخذ مكانها في سلّة القصب المعلّقة عاليا في الجدار حذر الجرذان. و الجرذان في
تلك السنوات بدأت زحفا منظما عبر شبكة الصرف الصحّي العصرية و إلا فلا عهد لنا
بها.
سبعة عشر بيضة، عدد أصمّ وتر، هذا
ما قرر أن يُكْرِكَ دجاجته عليه، باعتبار
أن الدجاجة الحرّة لا تقبل إلا عددا مفردا.
من حسن حظه، و الحظّ إن أصاب
فإنّه حتما سيخطأ، فإنّ الدجاجة وجدت نفسها جاهزة لحضن البيضات، صدفة قليلة في
أشهر القيظ، فرح عم الهادي و راح يذيع النبأ على كل جلسائه: "الدّجاجة كَرَكَتْ"
و لا ينقص إلا قبول التهاني و التبريكات.
و لكم أن تتخيّلوا نشوته بعد أن
اتقدت نار الانتظار واحدا و عشرين يوما، في الحقيقة كانت الفرحة فرحتان، فرحة
بالكتاكيت التي فقست و فرحة بالفحل الذي لم يُخيّب الآمال.
لعلّي نسيت أمرا ما كان لي أن
أنساه لولا مشاركتي فرح عم الهادي. كامل فترة الحضن كانت الدجاجة في صندوقها
الخشبيّ في فناء المنزل بعيدا عن العيون و عن الجرذان المترصّدة و حرّ القيظ. و إن
أردت الإسهاب في التفصيل فقد أضطرّ لإفشاء بعض الأسرار إن اعتبرنا أنها لا تتقادم
بالزمان، سأقول مثلا أن الصّندوق الخشبي كان على ملك أحد بائعي الخضر و تحوّل
بقدرة قادر إلى حمى الشيخ.
بعد أن فقست البيضات جميعها نُقلت
الدّجاجة في موكب مهيب حضره "البعرة" و ميشلان و بعض الثقات يقودهم عم
الهادي إلى الڨاراج، و هناك، تحت إحدى الجرار حشروا الصندوق. و رغم الظلمة الدائمة
للمكان فقد بدا الڨاراج غارقا في الأنوار،
أو هكذا بدا للشيخ.
مضت بعد ذلك أشهر عاد خلالها الڨاراج
مكتظّا و صاخبا خاصّة بعد أن وضعت الماعز حملها توأمين جميلين أثارا طمع الطّامعين
و حسد الحاسدين.
ذات صباح لاحظ العجوز نقصا في عدد
الدجاجات و لكنه عزا ذلك أوّل الأمر للفئران، و حين وصل الأمر إلى مرتبة الخطر
تفطّن بالصدفة إلى شيء جعله يوجّه الخطاب إلى ميشلان تلميحا بضرورة الانتباه حتى
لا تضيع الشتلة الثمينة هباء. عم الهادي لا يمنع وحيده شيئا و لا يزجره أبدا و
إنّما يكتفي بتوجيه النصائح بكل لطف و يقول: "ما تستطيع أخذه باللطف أبقى مما
تأخذه بالقوّة".
و هكذا كان، أخِذت المعزات بأمر
قضائي و بيعت بالمزاد، أما الدجاجات فلم ينجُ منها إلا ديكٌ وحيد أعنق لم يُرَ
لجماله و زهوه مثيلا في كامل الأنحاء و ثلاث دجاجات عجائز، و للديك حكاية أخرى
نتجاوزها بالإهمال.
ـــــــــــــــــ
العتوقة هي الدحاجة قبل أن تبيض أو بداية البيض
Commentaires
Enregistrer un commentaire