تلك الليلة أخذه النوم
فلم ينتبه إلا و الصّبح يتسلل عبر كوّة الحائط و شقوق ألواح النافذة الموصدة. مسح
العرق على جبينه و حول رقبته و هو يجلس على حافة السرير و قدماه تسويّان البلغة
على الأرض. عادة سيّئة لدى الكثيرين، أو هي طبيعة فيهم، يتخوّفون من نسائم الصيف
فيطبقون على أنفسهم الأبواب مفضلين رائحة العرق و طعم الملح.
توضّأ عم صالح و أسبغ
الوضوء لعلّ الماء يُزيل شيئا من لزوجة جلده، و حين همّ للصلاة تناهى إليه أذان
ديك للاّ زكية منذرا بطلوع قرن الشيطان، فكبّر مسرعا لعلّه –بينه و بين نفسه- يتمّ
الرّكعة الأولى قبل الشروق، من يدري! لعلّها إحدى حِيَلُ مالك مع ربّه.
في الخارج أصوات ثغاءٍ و
رُغاء و جلبةٌ ليست بعيدةً، تميّز يوم السّوق.
في حانوته، امتلأت خياشيمه
برائحة التّراب العطن المنبعثة من الجدران المشبعة بالنّدى المتسرّب من طبقات
الرّدم و الهدم التي خلّفتها ثمانية قرون من التقلبات على حافة مجرى موسميٍ لوادٍ
سحيق. و كالعادة، سحب كرسيّه و جلس عند عتبة الباب.
رائحة فحمةٍ مرعوبة ألهبت
أنفه و عينيه و معها شذى الشاي الفائرَةِ فُقاعاته على كانونٍ ملتهب أهاجت اللّعابَ
على لسانه فأحدث ذلك قرْقَرةً في بطنه الضامرة، و لولا مقلب البارحة لطلب من ڨدّور
كأسا مُزَبّدة... لكن لا مشكل، عضّ على قلبه و أدار السبحة بين أصابعه يسحب
حبّاتها كالدّقائق و الثّواني و يُكوّمها خلف ظهر يده أكداسا من صبر.
على يمينه ناحية الشرق لا
زالت بعضُ نتفٍ قزعيّةٍ لم تُبْلِ حمرَتها حُرقة الشمس بعد و حمامات يحُمْنَ حول
قبّة الكتّاب، لعلّ المدّب أغراهنّ ببعض فتاتٍ ، فهنّ يَطفْنَ حذرَ مكيدَةٍ تنتهي
بهنّ على الجمر.
توالى العابرون أمامه،
نساءٌ و رجال، بعضهم قافِلٌ من السوق و البعضُ مُصعّد، البعضُ راكبٌ و البعض يكرّ
نعله، و سلالُ السعفِ تُجدّفُ مع الأذرع السابحة و لا خيالَ لبهيمة سي عمر...
في الزّمن الماضي -و ليس
الماضي ببعيد- و في مكان ما هنا، كان الباب الجنوبيّ للقرية يفتح مصراعيه للأعراب
من أهل الوبر و للمزارعين من أهل المدر من أرجاء الدّاخل المفتوح. عادت به الذاكرة
إلى الصّبا و مشاكسة الحمير السارحة على سطح فندق العرب الذي محا الزّمن اسمه و
رسمه و إلى البئر التي لم يبقَ غير جابيتها الصدئة شاهدا على مواعيدَ اختلسها بعض
العاشقين.
حين أعلن صوت المذياع من
محلّ العطرية الساعة التاسعة في العاصمة كان وحش الفلاه ينتفض كأن بعض الذّكرى غَطّتْ
روحه فخنقته، لذلك لم ينتبه لشخصِ زبونه واقفًا أمامه و الشّواري مَصْرومةٌ على
ظهر الأتان من ثقلِ ما تزوّدَ به.
-السلام عليكم.
و انتصبَ واقفا كالمخلوع.
Commentaires
Enregistrer un commentaire