Accéder au contenu principal

وحش الفلاه 13


تلك الليلة أخذه النوم فلم ينتبه إلا و الصّبح يتسلل عبر كوّة الحائط و شقوق ألواح النافذة الموصدة. مسح العرق على جبينه و حول رقبته و هو يجلس على حافة السرير و قدماه تسويّان البلغة على الأرض. عادة سيّئة لدى الكثيرين، أو هي طبيعة فيهم، يتخوّفون من نسائم الصيف فيطبقون على أنفسهم الأبواب مفضلين رائحة العرق و طعم الملح.
توضّأ عم صالح و أسبغ الوضوء لعلّ الماء يُزيل شيئا من لزوجة جلده، و حين همّ للصلاة تناهى إليه أذان ديك للاّ زكية منذرا بطلوع قرن الشيطان، فكبّر مسرعا لعلّه –بينه و بين نفسه- يتمّ الرّكعة الأولى قبل الشروق، من يدري! لعلّها إحدى حِيَلُ مالك مع ربّه.
في الخارج أصوات ثغاءٍ و رُغاء و جلبةٌ ليست بعيدةً، تميّز يوم السّوق.
في حانوته، امتلأت خياشيمه برائحة التّراب العطن المنبعثة من الجدران المشبعة بالنّدى المتسرّب من طبقات الرّدم و الهدم التي خلّفتها ثمانية قرون من التقلبات على حافة مجرى موسميٍ لوادٍ سحيق. و كالعادة، سحب كرسيّه و جلس عند عتبة الباب.
رائحة فحمةٍ مرعوبة ألهبت أنفه و عينيه و معها شذى الشاي الفائرَةِ فُقاعاته على كانونٍ ملتهب أهاجت اللّعابَ على لسانه فأحدث ذلك قرْقَرةً في بطنه الضامرة، و لولا مقلب البارحة لطلب من ڨدّور كأسا مُزَبّدة... لكن لا مشكل، عضّ على قلبه و أدار السبحة بين أصابعه يسحب حبّاتها كالدّقائق و الثّواني و يُكوّمها خلف ظهر يده أكداسا من صبر.
على يمينه ناحية الشرق لا زالت بعضُ نتفٍ قزعيّةٍ لم تُبْلِ حمرَتها حُرقة الشمس بعد و حمامات يحُمْنَ حول قبّة الكتّاب، لعلّ المدّب أغراهنّ ببعض فتاتٍ ، فهنّ يَطفْنَ حذرَ مكيدَةٍ تنتهي بهنّ على الجمر.
توالى العابرون أمامه، نساءٌ و رجال، بعضهم قافِلٌ من السوق و البعضُ مُصعّد، البعضُ راكبٌ و البعض يكرّ نعله، و سلالُ السعفِ تُجدّفُ مع الأذرع السابحة و لا خيالَ لبهيمة سي عمر...
في الزّمن الماضي -و ليس الماضي ببعيد- و في مكان ما هنا، كان الباب الجنوبيّ للقرية يفتح مصراعيه للأعراب من أهل الوبر و للمزارعين من أهل المدر من أرجاء الدّاخل المفتوح. عادت به الذاكرة إلى الصّبا و مشاكسة الحمير السارحة على سطح فندق العرب الذي محا الزّمن اسمه و رسمه و إلى البئر التي لم يبقَ غير جابيتها الصدئة شاهدا على مواعيدَ اختلسها بعض العاشقين.
حين أعلن صوت المذياع من محلّ العطرية الساعة التاسعة في العاصمة كان وحش الفلاه ينتفض كأن بعض الذّكرى غَطّتْ روحه فخنقته، لذلك لم ينتبه لشخصِ زبونه واقفًا أمامه و الشّواري مَصْرومةٌ على ظهر الأتان من ثقلِ ما تزوّدَ به.
-السلام عليكم.

و انتصبَ واقفا كالمخلوع.  

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...