يذكر كبار السنّ أنه بعد انتصاب الحماية و تحقق شيء من الأمن تخلّت الكثير من المدن
و القرى عن حصونها و أسوارها و مدّت أذرُعها تتحسس البطاح المجاورة و أعلنت
سُفورها على الطريقة الفرنسية.
أما قريتنا فواصلت رقصها غير
عابئة بسلطة القصور، راسمة حلقات من غبار حول حزامها في دأبٍ موصولٍ لترويَ عطشَ
المستقبل من ماءٍ أجاجٍ أحاط بخاصرتها في تلك المستنقعات التي كانت أسوارَها
الحصينة فيما مضى من سالف العصر.
صلّى وحش الفلاه الجمعة مبرّدةً
مع العصر في جامع أحلامه و المنبر نصبَ عينه يتأمّل زخارفه و درجاته و يتخيّل
الصولجان في يده و سبّابته تفضُّ بكارة الدّعاء و الإسطوانات المتوّجة تتبارق
عيونها العنبيّة إعجابا و الثريات الشمعدانية ترفع أكفّها بالتأمين: آمين آمين
آمين...
و تذكّر صفيحة الـڨاز[1]
و قدّر أنّه سيرسل لملئها بعض الأطفال إلى محطّة الوقود القريبة.
بعد أن قُضيت الصلاة راودته رغبة جامحة في
مواقعة حلمه الآخر فاستدبر المسجد الجامع و يمم وجهه صوب خرائبَ لم يُعفها
الزّمان. هذه الأطلال يحجبها عن المصلّى الكبير صفّ من حوانيت أهملت منذ أن أهمل
الوطن أبناءه في شوارع باريس و تل أبيب.
توقّف أمام الحانة الموصدة و رفع
بصره يتأمّل بقايا الماخور و ما تبقّى من مبنى الدّريبة [2]و خيِّلَ إليه أنه شمّ مزيجا من رائحة البخور و خمرٍ مُراقٍ على البلاط ثمّ استدار و ولج مقهى النادي المبني على أساسات فندق المسافرين في الزمن الغابر و هناك بقيَ يتأمّل
أحلامه الرّاقصة في بخار كأس الشاي.
انقضت الجمعة و أزْهِقَ
السّبت بالملل و حلّ الأحد، الشوارع خالية و القيظ مخدّر و الشمس قائمة تمطط
الساعات و الأجساد و الصّمت مضجر لولا تراتيل الصبية تحت قبّة الكتّاب.
جرّ بلغته مشمّرا جبّته
عند كتفه حتى بلغ منزل صاحبه ذاك الذي أوقع سي عمر في شراك الطمع أوّل مرة و اتّفق
معه على بقية الخطّة.
و هكذا، حلّ فجر الاثنين.
Commentaires
Enregistrer un commentaire