النّجوم الآن تميل إلى السقوط
ساحبة معها كرة السماء خلف الأفق، و في انحدارها ذاك يزداد الشّرر المنبعث من
عيونها اتّقادا و تتسارع غمزاتها منذرة بيوم آخر من القيظ. بعض السّحب اليائسة في
أثوابها الرصاصية تُنهك نفسها زحفا لترسم لوحة فجرِها الأخير.
وصل "لَحْمَر" على
حماره و طرق الباب طرقا خفيفا و لم ينتظر كثيرا، كان وحش الفلاه على أتم استعداد
للمسير: عدّة البخور في جرابٍ يتدلّى على كتفه و فأس لمّاعة في يده و صفيحة الكاز
في اليد الأخرى.
حشر الفأس في شارية الحمار اليمنى
و الصفيحة وازى بها الثقل في اليسرى ثم أغلق بابه و أردف نفسه بكلّ خفّة وراء
السائق.
و صاح السائق زاجرًا: ارْررر.
بعض خيالات تتمايل في الأسفل هناك
عند المفترق، و أحدهم يتقيّأ مسندا رأسه إلى جذع شجرة الصفصاف عند أسفل البطحاء و
آخر يتبوّل عند أسفل حائط الجامع، بينما
كان ميشلان يراقبهم من فرجة الباب قبل أن يأوي إلى فراشه، لذلك قرص لحمر شكيمة
حماره فراغ يمينا عند أعلى البطحاء و التفّ حول بقايا حوض السبّالة و سار محاذرا
السقوط في بعض حفر القناة المهملة.
هناك، في بعض ثنايا الغابة توقّف
الحمار و نزل الوحش يتدلّى جرابه من رقبته و بلغته تغوص في الرّمل. سحب الفأس و
ألقاها على عاتقه ثم تبادل بعض الحديث مع شريكه و يده الطّليقة تشير في الهواء، و
حين تقدّم الحمار في اتجاه الرّبوة التي يحفّها دغل من شجيرات السدر و أجمة من
طرفاء ذابلة، حثّ وحش الفلاه خطوه متوسّطا الطريق إلى حقل سي عمر.
دغدغت أنفه رائحة الكسكسي باللحم
فكاد يطير مرفرفا بيديه و عرف أن الزهومة من غنم و راحت بطنه تستشعرُ لذَّةَ الوصل.
طلع الفجر منذ ساعة و السحابات
التي كانت هناك لم يبقَ منها غير نقطٍ من دماء شاحبة و لمح زوجة سي عمر تعقد غطاء
رأسها المورّد و ترمي السفساري تلفّ به جسمها المترهّل و سرعان ما تَغَمْبَزتْ ما
أن لمحت القادم الغريب و انسحبت عبر مسلك جانبيّ متجنّبة لقاءه و غابت في اتجاه
القرية.
نبح الكلب و سرعان ما تبعه
الآخرون لكنّ النباح تحوّل إلى زمجرة غضب متبادلة فلم يرفع أحدها رأسه عن قصعة طعام
الصباح، أو لعلها-الكلاب تذكرت كرمه ذاك اليوم لمّا رماها بكسرات الخبز.
هرع ابن سي عمر لاستقباله في حين اكتفى
الآخر بالوقوف بينما اعتدل الشيخ في مجلسه و انحنى يُحمّشُ الجمر متعجّلا استواء
البرّاد الأول.
و بعد السلام جلس عم صالح على
كرسيّ خشبيّ و قرّب إليه أحد الأولاد مائدة خشبية عليها زيت و خبز و بعض المخللات
و شفعها سي عمر بكأس شاي تلمع منها عيون الزّبد و يندحر ضوء النهار عند أسوارها.
و دقّت ساعة الجدّ، و شمّر الجميع
للحفر، بينما اتخذ الوحش لنفسه مكانا مفتوحا و افتتح الطقوس بنار موقدة.
Commentaires
Enregistrer un commentaire