الموسم3
الحلقة 19
كانت العصا تتوقّد كشعلة تضخّ نورها، و قد حشرها عبسلام
في صدعِ صخرة، فبدت كزهرة تبثّ أريجا يغمرُ الوادي و يملأه عطرا و شذى.
و كانت أصابعه تداعب النايَ.
و لا تسل عن الأنغام.
انسابت الزفرات فاخترقت حواجز الصّمت، و بين جفنيه
المسدلتين بدا العالم ألوانا. لو فتح عينيه لرأى حيوان الغاب يملأ حلبة الرقص و
لانتبه للشجر ساجدا و لأحسّ كيف ارتخى الجبلُ غير بعيد. لكن عبسلام كان ارتقى إلى
دنيا الجواهر، روحا خالصةً لا تكبّلها القيود.
عندما أراح القصبة و فتح عينيه كانت أمامه...
عروسٌ في حسنها و بهائها و رقّة النسيم تتأمَله بعينين
من فيروز و رموشٍ كسهام الليل و شفتين كحبّتي كَرز...
يا الله!
و كأنّ عبسلام صنمٌ قدّ من حجر، و قد عهدناه رابط الجأش!
يا الله!
أبعد أن نجا من الجاثوم تلك الليلة النّحس، يُسْلَبُ
إرادته و بأسه!
آالآن يا الله!
مرّت لحظات... كحجر صوّان ألقي في الثلج. و ذاب الثلج
على جبينه كحبّات الجمان.
و مالت فطبعت قبلة على شفتيه و انصرفت حتى توارت في شقٍّ
بين أخاديد الوادي.
و دون أن يدري امتدّت يداه فما قبضتا إلا السراب.
أإنْسٌ أم ابنة الجان!؟
و في غمرة
الذّهول تذكّر قول شيخه: " إنّك
أصبحت و قد ولَجْتَ حمَى شَياطين سُليْمان"، و ردَّ يدهُ على قلبه فلم يلقَ
له أثرًا فصاح و وجهه يتقلّب في السّماء:
تلك التي
سرقت قلبي و ما تركتْ__إلاّ سرابا و وهما في اللقاءات
رُدّي عليّ
فؤادي يا ابنةَ المَلِكِ__فبعدكم صارَتِ الدنيا قِفارات
و ألقى رأسه
بين كفّيه ينتحب.
و فجأة سمع
شيئا كالدّويّ و راح الصوت يقترب و يتدنّى حتى صار بين يديه:
ما لكَ يا
عبْسَلامُ تشتكي منّا!__إنّا وجدناهُ ملقى في الفلاواتِ
أفرَغُ من فارِغٍ، قَفْرٌ، تَئِنّ بهِ__الرّيحُ في كُلِّ صَوْبٍ و اتّجاهات
فكيفَ تسألُ عن ميْتٍ بلا روحٍ__و نحنُ أحيَيْناهُ بينَ أموات
و أنَّ منْ أحيا أرضًا، صارَ يَمْلُكُها__كيْفَ أفَرِّطُ في ثَمْرٍ و
غلاّتِ؟!
و كيفَ تسْألُني ما جِئْتَ تطلُبُهُ__و قدْ وَجَدْناهُ مُلْقى في الثّنياتاتِ!
و كاد عبسلام يُجنّ، أيرضى من الغنيمة بالإياب! لا والله، ما هذا عبسلام تلميذ
الشيخ!
قال، و قد عزم على الظفر بالغنيمة كاملة:
صَدَقْتني قولا، ما أنتِ كاذبةٌ__ أمْرٌ تبيَّنَ في مُحْكَمِ الآيات
فلا! معاذَ الله، لَسْتُ أجْحَدُكِ__و كيفَ أجْحدُ أو ألُجُّ في الخُصومات!
رأيتُكِ مؤمنةً، قلتُ أذكّرُكِ__الله يأمُرُكُمْ رُدّوا الأمانات.
إن شئتِ بعتك قلبي -ثمنٌ بخسٌ،__الوصلُ، و الوصلُ كافٍ في الحسابات
و هكذا، أسدل الستار على فصلٍ من الفضائل التي يتقلّبُ فيها عبسلام ببركة شيخه
ذي الذّكر، و هكذا، انقضت الليلة في الهواء الطلق في بعض فجاج عبقرية الجمال.
و ما أن انبلج الضياء حتى كان يُصعّدُ بعض التلال نحو الغرب.
Commentaires
Enregistrer un commentaire