Accéder au contenu principal

Articles

Affichage des articles du janvier, 2017

في ربى الجنان 10

و مرّ ذاك اليوم كالأمل، و أقبل الليل و حلّ، و كلّ حديثنا عسل. و لمّا مُلئت المحاجر بالنّعاس، و رقص في السّقف النُّواس، تزمّلتُ بالبجاد و أسلمت جنبي للرّقاد، و أرخيتُ للروح القياد، حتى صارت إلى البرزخ، تمرح حينا أو تربخ، عساها تأتيني بالرّؤى و من خبرِ الورى... و ما لبثت أن ارتدّت بالخبر، و لكلّ نبإٍ مستقر... و هكذا انفتح المسرح على الشيخ يصرخ، و يستنفر النّفوس، و يُحرّض الخميس. و سار كلّ إلى وجهته عاضّا على وذْرَته، و الشرر يتّقد في العيون، و المِعى تُقرقر في البطون، حتى بلغ كُلٌّ مكانه، و أناخ و ألقى جرانه، خانسًا يترصّد، و العرقُ يتفصّد، حتّى كانت الإشارة، فشُنّت الغارة. فبادر قوم لإشْغَال النواطير، بالرّقص و الصّفير، و زُمرةٌ من أصحاب الجدال، انهالوا عليهم بالسؤال، و لَجّوا في المقال، و ثُلّةٌ بَرعت في الشّغب، توارت بين القُضب، لتقذفَ الغَفَرَ بالحصب... حتى إذا تشتت اهتمامهم و زاغت من العسس أبصارهم، قرّر غلام الرّئيس العبور، إلى أُسُسِ السّور، و أشهر النّاقور... و دام الطرق بُرهة، حتى اتّسعت الحفرة، و أفضت إلى الشّفير، و نار السّعير. عندها اندفع أصحابنا مارقين، و نجوا...

مذكرات عبسلام الحلقة 16

الموسم3 الحلقة15   تركنا عبسلام يتبهنَسُ [1] بمحاذاة شواطئ وهران و يترنّم بصوت أغنّ: وهران [2] وهران رُحْتي خسَارَه هَجْروا منك ناس شطاره قعْدوا في الغُرْبه حيارى و الغربه صعيبه و غدّاره (أغنية للشاب خالد) و ما كاد يأتي عليها حتى لمح لافتة خُطّ فيها اسم الحيّ "حي المجاهدين"، فاستبشر عبسلام خيرا و تبارقت عيناه بالسعادة و طنّت الأفكار في رأسه و قد أظلّه الفأل الحسن، و بينما هو كذلك إذ بدويّ مجلجلٍ يسوطُ السّحاب، و تراءى له نورُ شيخه يتلألأ بالبياض كجبل تكوّم من بَرَدٍ لو انهال على الأرض لنخرها، أرعد الصّوت: عبسلام! ما هذا التلكؤ يا عِبْس! ألم نشر لك أن لا تتوقّف حتى تبلغ "زوج بغال [3] "! أتراك نسيتَ فلم نجد لك عزما! لتركُضنّ حتى تبلُغنّ العامريّة و إلا هلكت، قضينا و رُفِع القلم. و همّ النّور أن يتبدد، فصاح عبسلام مناديا مستعطفا كأنّه يُمسك تلابيبَ الشّبح: -أتُهلك صهرك و خادمك، قد تشابهت عليّ العوامر فأفرغْ عليّ رُشدا. ردد الصوت: -لات حين مناص، لات حين مناص! و احتفى مع قرقعة كما بابٍ يغلق. و جمد عبسلام في مكانه شاردا صافنا برهة كبعض أصنام ا...

في ربى الجنان 9

و بعد أن تحلّل الإمام من إحرامه، و عقّب بصالحات أعماله، تفرّق المصلّون في الرّبع، يبتغون فضلا بالدّفع، و ازّاورتُ عن صوبهم إلى ركن شرقيّ، لا رطب و لا نديّ، و أقعيت أنتظر، و لا شيء في الفِكر! و مرّت عليّ ساعة على تلك الحال حتى استدار طوق الضياء، و قلّدت الشمس جيد السماء، فباعدت بين ساقيّ، و فرّجت كفّا يديّ، أستجمّ بالنّور، و أنتشي بالسرور، كَحَنَشِ شهر مارس، فتأدّبوا –يارعاكم الله في المجالس. حتى إذا انتضت السهام، و اخترقت الخِرَقَ و الأكمام، قمت أتكاسل، إذ لا شغل لي و لا شاغل، فالخبز مخبوز، و الزّيت في الكوز، و الرحمة حقّ للعجوز. قلت، لأطوفنَّ اليوم بالغُرف، و لأنامنّ حدّ الشّغف، و لأحلمنَّ بالخشف، و رموشٍ كاسرات ترفّ. و حين غَسقَتِ الرؤى في الأفق، و انسابت كالفجر لمّا فلق، وجدتني مع خلاّن الصفا، نبحلقُ في الفتى. قال الشيخ الرئيس، و قد هدّته حمى الخندريس:  هذا الفتى لُقطة، قد و الله ازددت به غبطة، منذ ظفرت به ذات عصر، عند أطلال الحضر، لما كنا محاصرين، في أم الرّبيعين، مع جند أبي بكر، الخليفة الهزبر، نصدّ طلائع الحشد، و نرميهم في اللحد، و هو فتى مقدام، كريم ابن كرام، ...

في ربى الجنان 8

 و كان يوما طويلا، فرحت أحصي الساعات و أعد الدقائق على الجمر، و النّهار يتمطّى بين لمّا و حتّى، و الشوق يستعر و أنواط القلب له وقود، فانطلقت أطّوف في البادية، و أبدد النهار بين روحة و غادية و أستدني موعد النوم و إطلالة الحلم. و حلّ الليل بجند كالسّيل فأطبق على الأجفان النوم، و انتهى اليوم، و رأيتني في جنّتي بين صحبتي و عيبتي، في حوزتنا النّدية ، و كورتنا البهيّة، و الأمر بيننا شورى، و القوارير بين ذلكم عقرى. قال أحد الرفاق: ألا إنّ الهيئة لقاح لا يحكمها ملك و لا يتورّك عليها ورك، فالرأي الرأي. قال فتى كانت تبدو عليه علامات الحياء: نهجم عليهم و نضربهم ضربة رجل واحد و نحرر أصحابنا و نصل أحبابنا. -بئس الرأي هذا، صاح شيخ من بعيد. فاشرأبّت أعناقنا إلى الرجل، فإذا هو في ثوبٍ قد جُبَّ، و لحافُ رأسهِ قُبَّ، و بين يديه شيئ كالدُبّة، يتلقلقُ فيها بقيّةُ صُبّة، قد استطالت عفنقته و عظمت زُبرته، و عليه وقار و سكون، و لا ندري من يكون. فصحت: بربّك من أنت! أمن العجم أم من العرب؟ هات انتسب! قال: أنا شيخُ نجد، لولايَ لما تقلّبتم في الرغد، و لا ذقتم رحيقا و لا قند، فشنّفوا الآذان، ت...

في ربى الجنان 7

بعد أن وخزني الدبّور رحت أطلب بعض الثوم دواء قيل أنه شافٍ من الحشرات السّامّة و الزّنابر الهامّة، و ما أن عثرتُ على سِنّةٍ حتى طفقت أدلك بها موضع الإبرة، و أثر الحُمرة حتى عادت رائحتى سائر يومي ذاك خبيثة و أثوابي نبيثة فلم تقربني الملائكة حتى شُفيت فأهرقت على رأسي ذَنوبا أو ذَنوبين و جردلا أسبغُ به الغسل ثم أصبتُ شيئا من العطرشاه و خرجت أنظر في رزقي. و ما أن أسدل الليل رداءه و تورّك حتى كنت متناه في غفوتي مضطجعا شقّيَ الأيمن و يمنايَ تُمسك أذني من تحتها و يُسرايَ لا أدري أين تبيت. و رأيت فيما يرى القلب و تبصر البصيرة أني أتصدّر مجلسا حضره إخوان الهيئة تحيطنا الجنان و تضللنا الورود و تجري الأنهار من تحتنا و تبرق الكأس مع الأباريق على الأفاريق و يسعى بينا المخلّدون و القاصرات البيضُ و عند كلّ بوّابة أزبّ الساعدين غضنفر يراقب كل شاردة و واردة و يحفظ المكان من كلّ مندسّ جاء يتجسس أو متطفّل توارى يتلصص. قلت: يا بيض الوجوه يا خيرَ نَديّ، قد جمعتكم لأمر جنيفٍ، لا يقدر عله إلا كلّ غِطريف، حرٍّ بعد ذلك مُنيف، كريم الكفّ لطيف، ألا فاعلموا أنّ لكم إخوانا، قد ذاقوا مُرّا و هوانا، ألْقوا ...

في ربى الجنان 6

كان يوما جميلا تدثّر بأحلام الرّبيع و سرقت سماءه من شمس الصيف شعاعها و اخضرّت أرضه برداء الجِنان، و كنت أمشي على البساط النّديّ حتى أخذني شيء من التّعب إلى ربوةٍ أصابها طلّ فأبرشت و أزهرت إعصارا من ألوان و فيضا من طنين، و هناك اتّكأت و أسلمت خاطري يرْبَعُ و ينُطّ. و وجدتني في عليِّ الفردوس و ما في الصّدر ضيقٌ أو غُنوص، و قد انشرح الأفق فما أخفى و لا درق و البساط ينساب بي في الأثير بين الأنوار و العطور حتى ألفيتني جنب السّور من الجانب الذي بُطّن بالرحمة و تكدّست أسفله النّعمة، و إذا بالحرس العتيد، و عيونهم بالغيظ تقيد، قد اصطفوا غير بعيد، و في أيديهم كلاليب من حديد محمّى يزجرون بها من تحدثه نفسه الإباق و مجاوزة الرّستاق، فيردّونهم في السّعير، و يبُكّوهم في الحفير. صحت أنادي الهاتف: يا أخ، هل لنا في فرجة من قريب، فوربّك إنّ هذا لشيء عجيب! قال الهاتف من وراء الحجب: يا شيخ هل أنتم مطّلعون، إلى سواء الجحيم؟ فاطّلعت فإذا أقوام أعرفهم بسيماهم، فلان و فلان، فرفعت عقيرتي أناديهم حتى كاد صوتي الجميل أن يبحّ و حلقي الرقيق أن يكحّ لولا أن انتبه أحد المخاطَبين فقطّب لمرآيَ الجبين، و همّ أ...

ميشلان مرة أخرى

- تلك الليلة سكر ميشلان حتى لو قيل له حلّقْ لحلّقَ زاهدا في غده. في ليلة سابقة وصفه المديوني بالعاجز، قال أن أباه –عم الهادي- كان يشرب الثمانية و العشرة دون أن يقوم من مكانه أو تضطرب له إبرة، و منذ ذلك الحين تعلّم ميشلان الصّبر و المثابرة. لكن الليلة مميّزة. عاد رشيد بما استطاع أن يُقايض به بائع الخمر خلسةً، صندوقان من الجعة و حارتان من المرنا ڨ، و قال وهو يُبرز صدره: صفقة رابحة! و أخرج قرطاس الحمص من جيبه. و جاء البُقراج بأربعين قارورة جعة و ثلاث أو أربع ذات حجم كبير لم نتبَيّنْ نوعها في ذلك السّواد الذي ينشئه اللون الأخضر. و التحق الكَرَع بالمجلس و قد حشر قارورتين في كيس خَلِقٍ قال أنهما من المقطّر نجتا من عرس ابن عمّه بفضل خطّة ذكية. و كان اسماعيل نجم القعدة بلا منازع و هو العائد من مرسيليا محمرّ الوجه بالنعمة لذلك تصدّر المكان و دُحيَ صندوق الدّجاجة أمامه، كيف لا و قارورة ويسكي بين قدميه و أخرى لا أحد يعرف اسمها وراء ظهره و علبتان من الحشيشة مكتوب عليهما "كبشان" بخط أسود رديء تتطاولان كالبنيان المرصوص! افتتح اسماعيل الجلسة بنخب ويسكي أداره على الجميع ما أن...

ميشلان مرة أخرى

مرّ رشيد يدفعُ الكرّوسة ذات العجلات الهوائية أمامه، يمسك طرفها بيد و يدفع بالأخرى و يترنّح معها يمنة و يُسرةً و كلّما بدّل خطوة راوح بين يديه. و لمّا دفع العربة إلى البطحاء انغرست عجلاتها في التراب الميّت غير بعيد عن باب ال ڨاراج المردود فتوقّف و مسح جبينه ثمّ تقدّم، لكنّه عاد ليكوّم شيئا من التراب على بعض عظام بقيت مكشوفة عند طرف المزبلة. البارحة كانت ليلة صاخبة كغيرها و لحم الدجاج لم يستوِ جيّدا على الفحم الذي سرقه "الدّحّة" من مخزن منزلهم، كان الفحم خليطا من خشب اللوز و أصول الزيتون التي قلعها أبوه السنة الفارطة خلسة عن عيون العمدة و جماعة المراقبة الفلاحية، و هذا الفحم رديء يثير الكثير من الشرر و الدخان فيجعل كل ما يحيط به منقطا بالأسود. دفع رشيد الباب الحديدي و مضى يلتقط القوارير الفارغة المتناثرة هنا و هناك، و حين جمعها في كدس نقلها على مراحل إلى الكرّوسة و انطلق إلى بعض أطراف القرية حيث سيبادل هناك التي أزهقت أرواحها بأخرى ذات أرواح. رشيد و ميشلان تربان، و إن جمعت بينهما قرابة ليست بالبعيدة فإنّ ما يربط بينهما أكثر هو  النظرة الفلسفية المعقّدة لتبسيط الإشكالا...

سي ڨدّور إمام المسجد

تناهى إلى مسامع سي ڨدّور ذات قيلولة في المسجد أن التدخين حرام، و راح يلقي على جلاّسه المتوسّدين مرافقهم ما حدّثه به الحاج الطّيب. و الحاج الطّيب سيصبح ذات يوم الإمام الخطيب للجامع الذي تنوي الإدارة إعادة بعثه، أمرٌ سيجعل وحش الفلاه يموت بغيظه. قال الحاج الطيّب أنه سمع إمام الحرم يخطبُ و الدّموع تنهمر من عينيه و الكلمات تخرج من بين أسنانه كسهام مُريّشةٍ باللهب فتشعلُ قلوب الحاضرين بالإيمان و تغرقهم في الدموع، و أنه سمع و وعى، حرّم الإمام السجائر صناعةً و بيعا و استهلاكا، و ساق في ذلك أدلّة شرعية واضحة. بالنّسبة لإمامنا لم تكن الأدلة الشرعية تعني شيئا بقدر ما كان الإزعاج الذي أضحت تسببه له سجائر يومه الثلاث، من ذلك البُحّة التي ما فتئت تشوّه صوته الجميل و نوبات السّعال الصباحية المتكرّرة لذلك اتخذ ما سمعه حجّة و مثابةً يستند إليها. فملأ جيوبه بحلوى النّعناع في خطوة أولى للإقلاع، ثم، في سنوات قادمة، تصبح ألواحا من الشكولاطة و سيتزلّف إليه بعضهم من خلالها لسماعٍ ترتيلٍ مؤثّرٍ أو سورةٍ طويلة أو أذان متأنٍّ أو لغض الطرف عن اجتماع لبعض "الإخوة" بين العصرين أو لإحياء سُنّة ال...

عتّوقة عم الهادي /ميشلان

كانت عتّوقة1 عمّ الهادي تتهادى من داخل الڨاراج إلى الزريبة الخلفية إلى البطحاء كدأبها منذ أن ميّزها عن غيرها من الدّجاجات و حظاها بعنايته الفائقة و كرمه المبالغ، و ازدادت فرحته بها منذ أن بشّره "البعرة ولد عبد الله" بتلك "العظمة فتوح"، حتى أنه أصبح يفكّر جدّيا في الفحل المناسب. و لعم الهادي هوَسٌ منقطع النظير بالأنساب، يقول "الشّتلة هي السّاس" و "العرق دسّاس" و كانت تقضّ مضجعه و تغرقه في الكآبة فكرة أن يتزوّج ميشلان من غير "بنت أصل" يرضاها هو -الخبير بالأنساب، لذلك كان كثيرا ما يردّد على مسمع ابنه: "يا ولدي شتلتنا قليلة، فتخيّرْ". و بعد أن سأل و استفسر، دلَّهُ بعض جلسائه على أحد المزارعين، و لنختصر الحديث، انتهى البحث بحصول عم الهادي على ديك حسن الصّوت و الهيئة، بارز الصّدر، عظيم الفخذين، جميل العرف، في ريشه ألقٌ و ذيله كامل الصّفات، "لا يؤذّن الديك إذا كان منتوف الذّيل،" كان يقول. و لنختصر هنا أيضا، صارت العتّوقة دجاجة كاملة الصفات ترفلُ في ألوانها و في النعمة التي يُغدقها عليها الشّيخ، و صار ينتظر بفارغ ا...

وحش الفلاه 20 الأخيرة

 الأخيرة قد يتخيّل القارئ أن سي عمر الآن يهمز شكيمة بهيمته و يلهب مؤخرتها بالسوط ليحثها على اللحاق بوحش الفلاه أو قد يتصوره البعض جالسا يفكّر في طريقة للثأر أو على أقلّ تقدير لاسترجاع أمواله المنهوبة، و لكن شيئا من هذا لم يكن ليحدث أصلا. من ناحيتي، لن أسمح للأحداث أن تخرج عن سياقها المألوف، لا يُقرّ الغبيّ بغبائه حتى و إن عضّ على أصابعه، و إلا لما كان غبيّا منذ البداية. و لذلك ابتلع سي عمر غصّته و آثر النسيان الصامت على الفضيحة المجلجلة، و هكذا تسير الأمور غالب الوقت. أما صاحبنا وحش الفلاه فقد كان خاليَ الذهن تماما، لنقلْ أن ما يزعجه بعض الشيء هو الأجر الذي سيدفعه لـ "لحمر". و ماذا لو لم يدفع له فلسا! لنعرف ذلك علينا أن نغوص عميقا في نفس وحش الفلاه أو عم صالح، و لكنّي أفضّل على ذلك منطق الربح و الخسارة ثمّ ترجيح إحدى الكفّيتين. لكني أوثر شيئا آخر بدا لي منطقيا أكثر، أوجزه في كلمات لأغلق هذه النافذة على مشهد من أيام قريةٍ فقدت ظلّها إلى الأبد. فتح وحش الفلاه حانوته و جمع أغراضه الخفيفة في صُرّة كبيرة و حملها إلى بيته يُزامله لحمر، و عاد ينقل الطاولة و الكر...

وحش الفلاه 19

 ما كان وحش الفلاه ليغفل عن قصعة الطعام، و ما كان له أن يُسامح نفسه لو تركها، و لذلك أو قف الحفر بإشارة و دعاهم إلى الطعام بعيدا في ظلّ شجرة الصفصاف على طرف النّادر. من لم يشاهد قَبْلاً كيف يحمى وطيسُ اللقم فلن يتخيّله. و عاد الجميع إلى مواقعهم مُخدّرين من الثّقل. تسلّق "لحمر" جدار الطوب و صعد إلى حيث يستوي السّقف التّرابيّ الذي غزته النباتات البريّة و نمت و عرّشت و جفّت في انتظار مطرٍ قد تأتي. و من خلال القصبات الباقية انفتح المشهد أمامه: الوحش في تجلّياته المفتوحة  و سي عمر يطوف بالحفرة التي ابتلعت ابنيه في عمقها فلا يُرى لهما إلا رمياتٌ واهنةٌ حين ترتفع المجرفتان متثاقلتان. قدّر لحمر أنّ هذا هو الأوان. لحمر نشأ يتيما قائما بذاته، و لم يتّكل على غير ذراعه. كان يقول: "الثروة الحقيقية هي صحّة البدن و الحرّية" و راح يعرض خدماته على من يريد، كلّ شيء ممكن مادام هناك جهد و معرفة، مالا يمكن عمله أبدًا هو انتهاك حرمات الناس و إفشاء أسرارهم. و حين عرض عليه وحش الفلاه الخطّة لم يتردد، العمل هو العمل مادام يقابله أجر. راح ينتقي الحجارة التي تملأ كفّه و يكدّسه...

وحش الفلاه 18

ترك النّار تأجج نفسها و تصارع جمر الشمس المنسكبة من السماء و انتصب خطيبا في الحاضرين، سي عمر و ابناه و كلبان بسطا ذراعيهما غير بعيد. حدّث عم صالح: ليكن في علمكم، قد تحدث أشياء عجيبة فلا تتعجبوا و لا تتولّوا! مهما رأيتم أو سمعتم فلا تتكلّموا و لو همسا، لا تفتحوا أفواهكم حتى تثاؤبا، و من حدّثته نفسه بالعطاس فليكتمها بيده هكذا و من دغدغته نُخامة أنفه فليبتلعها، فإنّه من فتح فاه أضاع الكنز و لو كان في يده. "قد نبّهت فلا تلوموني، و من أنذر فقد أعذر"، قالها مقلّدا مفتي هلال رمضان. ثمّ استبق إلى ما تبقّى من وشم الطلسم تحت الخرّوبة العجوز. تأمّل الرّسوم و راح يحصي خُطواته مظاهرا الشجرة المعمّرة نحو الإجاصة التي لا تزال نضرة و إن فقدت ثمارها. -بركة، اثنين، ثلاثة... عشرة و كزّ على رباعيتيه مشددا حرف الشين ليوائم بالشّدّة ارتكازة خُفّ قدمه على كَسْرَةٍ خزفيّةٍ بدا وجودها مغروسة هناك طالع خير. -ابدؤوا الحفر هنا، و رسم بمقدّم بلغته حولها ما يمكن احتسابه دائرة متراميَةً أقطارُها. -من الآن يُمنع الكلام، أعطني الفأس... بسم الله. و هوى مفتتحا المشروع. تركهم لعرقهم ير...

وحش الفلاه 17

النّجوم الآن تميل إلى السقوط ساحبة معها كرة السماء خلف الأفق، و في انحدارها ذاك يزداد الشّرر المنبعث من عيونها اتّقادا و تتسارع غمزاتها منذرة بيوم آخر من القيظ. بعض السّحب اليائسة في أثوابها الرصاصية تُنهك نفسها زحفا لترسم لوحة فجرِها الأخير. وصل "لَحْمَر" على حماره و طرق الباب طرقا خفيفا و لم ينتظر كثيرا، كان وحش الفلاه على أتم استعداد للمسير: عدّة البخور في جرابٍ يتدلّى على كتفه و فأس لمّاعة في يده و صفيحة الكاز في اليد الأخرى. حشر الفأس في شارية الحمار اليمنى و الصفيحة وازى بها الثقل في اليسرى ثم أغلق بابه و أردف نفسه بكلّ خفّة وراء السائق. و صاح السائق زاجرًا: ارْررر. بعض خيالات تتمايل في الأسفل هناك عند المفترق، و أحدهم يتقيّأ مسندا رأسه إلى جذع شجرة الصفصاف عند أسفل البطحاء و آخر يتبوّل عند أسفل حائط الجامع،  بينما كان ميشلان يراقبهم من فرجة الباب قبل أن يأوي إلى فراشه، لذلك قرص لحمر شكيمة حماره فراغ يمينا عند أعلى البطحاء و التفّ حول بقايا حوض السبّالة و سار محاذرا السقوط في بعض حفر القناة المهملة. هناك، في بعض ثنايا الغابة توقّف الحمار و نزل الوحش يتدلّى ج...

وحش الفلاه 16

 يذكر كبار السنّ أنه بعد انتصاب الحماية و تحقق شيء من الأمن تخلّت الكثير من المدن و القرى عن حصونها و أسوارها و مدّت أذرُعها تتحسس البطاح المجاورة و أعلنت سُفورها على الطريقة الفرنسية. أما قريتنا فواصلت رقصها غير عابئة بسلطة القصور، راسمة حلقات من غبار حول حزامها في دأبٍ موصولٍ لترويَ عطشَ المستقبل من ماءٍ أجاجٍ أحاط بخاصرتها في تلك المستنقعات التي كانت أسوارَها الحصينة فيما مضى من سالف العصر. صلّى وحش الفلاه الجمعة مبرّدةً مع العصر في جامع أحلامه و المنبر نصبَ عينه يتأمّل زخارفه و درجاته و يتخيّل الصولجان في يده و سبّابته تفضُّ بكارة الدّعاء و الإسطوانات المتوّجة تتبارق عيونها العنبيّة إعجابا و الثريات الشمعدانية ترفع أكفّها بالتأمين: آمين آمين آمين... و تذكّر صفيحة الـ ڨاز [1] و قدّر أنّه سيرسل لملئها بعض الأطفال إلى محطّة الوقود القريبة.  بعد أن قُضيت الصلاة راودته رغبة جامحة في مواقعة حلمه الآخر فاستدبر المسجد الجامع و يمم وجهه صوب خرائبَ لم يُعفها الزّمان. هذه الأطلال يحجبها عن المصلّى الكبير صفّ من حوانيت أهملت منذ أن أهمل الوطن أبناءه في شوارع باريس و تل أب...

وحش الفلاه 15

دخل وحش الفلاه بهو المعتمدية فوجدها تغصّ بأصحاب العاهات و الحاجات القادمين من النواحي. تأمّل في الوجوه برهة ثمّ تقدّم نحو الحاجب. كان الحاجب على كرسيّه كملكٍ على عرشه، مال عليه عم صالح موشوشا: -أريد مقابلة السيد المعتمد لأمر أكيد و مستعجل! -انتظر دورك يا عم صالح الكلّ يعرف أن الحاجب صارم في التزامه القوانين، لذلك أسند عم صالح ظهره إلى الحائط و بقيَ ينتظر، أو هكذا بدا للناظر. الحاجب ابن القرية، و نعرف أمه و أباه و أجداده، فكّر الوحش، لا يليق أن يردّني. و فعلا، ناداه -من خلف مكتبه المرصوص بالملفات- بإشارة من رأسه، و حين انحنى برأسه ليسمعه، وشوش له أن العيون الكثيرة تترصّد كل شاردة و واردة و من الأفضل أن يعود في غير يوم السوق أو أن يتربّص للمعتمد أمام منزله أو حين يخرج للمقهى. شكره عم صالح و هم بالمغادرة عندما سمع صوتا يناديه عبر باب المكتب المحاذي لباب الخروج. كان عبد السّلام ابن عمّ سالم ولد الحاج جالسا على المكتب الذي من المفترض أن يكون لجلّول- عدوّه اللدود، و على إثر الحديث فهم أن جلول أحيل إلى التقاعد و أنّه حلّ محلّه بعد تدخّلات من ابن عمّه. خرج الشيخ و هو يدير ا...

وحش الفلاه 14

و ليُخفيَ الرّعب الذي غشي ملامحه مرّر يده على وجهه كأنه يصلّي على النبيّ ثم هجم بالقول: -أهلا سي عمر، شغلتني عليك، خفت أن لا تعود و تفرّط في كنزك أو أن يداهمنا الوقت، هاه، ماذا فعلت؟ -كلمة رجال يا عم صالح، قلتُ نهار السوق أكمل لك المبلغ و ها أنا ذا. و أخرج من جيبه حزمة أوراق. تناولها وحش الفلاه و دخل حانوته ليعدّها بينما ظلّ سي عمر يرقبُه بعين ثابتة. -هذا لا يكفي! و حشر المبلغ في درج الطاولة و أدار المفتاح. -و لكن اتفقنا على ثمن ثلاث كباش! -كلا يا سي عمر، كان ذلك ثمن البخور، لكننا لم نتحدّث عن ما ستعطيني. -و كم أجرك يا عم صالح؟! -ليس أجرا، و لا يحقّ لي أن أتقاضى أجرا، سمه هبةً أو عطاءً، فقط "بيّضلي كفّي"، ذلك شرط لنجاح العملية. حكّ سي عمر رأسه مرّتين من تحت كبّوسه رافعا حاجبا و مغلقا عينا ثم مال بشقّه الأيسر و أخرج من جيب بلوزته حافظة أوراقه الجلدية و عدّ وُريقاتٍ قدّمها بيدٍ ثابتة لوحش الفلاه، و وحش الفلاه تلمع عيناه بلذة النّصر. ثم ليُبرهن على مدى كرمه يدفع إليه بأخرى و يدسّها في يده كأنّه يفرضها عليه فرضا. أخفى الوحش المبلغ عند صدره و مدّ يده ...