ثمّ كانت ليلةٌ من الأرق يتناثرُ زبَدُه مرتبكًا كفقاقيعٍ راغِيَةٍ عند قصعة صابون رديء الزّيت، و تبرُقُ ألوانها بألف لونٍ من الضّجر. إن لاحظتَ، فالأرقُ يُلهبُ الحرَّ في الجوِّ حتى يتقطّر العرقُ في ليالي كانونَ.
و بين الغفوة و الغفوة هوّة بلا قرار من السّهاد يتراءى من خلالها السقف كالقمر البعيد عبر فوهة جبّ في دارٍ مهجورة.
و كلّما انتبهت رحت أجمّع لَبِنات الحلم المتشظية بين ثنايا الدثار و أعيد رصفها لتكوّن حلبةَ لمسرح الرؤيا.
ارتفع البساط النورانيُّ و استدار يقابل الشمس فاكتست زئابرُه ألفَ لَمْعٍ في حين كانت أهدابُه تصفّ و تُمسكُ مثل أجنحة الطّير. ثمّ كنتُ عند أعلامٍ تحفّ نهرا يجري بخمرٍ لا شائبة فيها و من تحتها يبينُ تُراب الكافور نقيًّا كالحليب.
و عند إحدى تلك الأيات لمحتُ جارية تتوهّجُ كقارورة من زجاجٍ فيها مصباحٌ تُبهر الأعينَ بالضياء:
-يا أمَهْ! من أنت و أيُّ برْقٍ شَرَقَ بكِ إلى هنا!؟
-أنا رشا رسول أم البنين تدعوكَ أن أقبلْ فإنّ الشوقَ بلَغَ الزّبى.
-ارجعي فقولي أني أعود قريبا...
ثم خطرَ لي:
-يا جارية، أتعرفين أبا نواس و جارية عنان؟
فتبسّمت عجبا و تلوّت كغصن بانٍ هزّه الخجل و قالت:
-عرفتُ صاحبَه حسين الدّنّان من شعر رماني به يوم السوق عند ذات الأكيراخ و معه زهير.
-أتجيدين العضّ يا رشأَ عُمّمت بليلٍ أسود؟
-إنما له أنشأتُ يا مولاي.
و كان ما كان تحت شجرة التفاح في ساعة كان مقدارها سبعين مما نَعدّ في الدنيا.
و لما قضيت منها وطرا انتبهت إلى صوتٍ خافتٍ كأنه خوارٌ فإذا هو قصرٌ عاليةٌ أبراجه شاهقَةٌ كقُلل الجبال كلّما سفعت الرّيحُ ذُراها خارتْ كَعِجلٍ لم يَبْلُغِ الفطام بعد. ناديت:
-لمنْ هذا الخَورْنقُ يا أيّها الهاتف؟! لأحسبُ أن ساكنه من المقرّبين الأخيار!
صاح الصوت و قد بدا أنه تخلّص من بُحَةِ البارحة:
- هذا قصر أمين سرّ الهيئة، لله دره، هنيئا لك الجوار.
فارتددت على أثري مُولّيا:
-سلامٌ عليه، طوبى لنا معشر الأبرار.
فكأني سمعت صوت الهاتف يكتم قهقهة، فسألت مستعلما:
-و بقية أصحابي، متى سألقاهم؟
-بعضهم في الفردوس الأسفل تلقاهم يوم السوق،و بعضهم ستطّلع إليه من أعلى الجدار.
فتناولت السِّماط و ارتقيت البساط و أزمعت السير إلى الغرب حين لهج المؤذّن بالصبح.
Commentaires
Enregistrer un commentaire