حدّثنا زكرة بن نافخ قال:
الليلة الأولى
بعد أن وجدنا أنفسنا في مقام
القرب و النجوى حبوا على الرّكب من تحت العرش، ثلة من الآخرين علينا خلقٌ من أثواب
الدّين بعضها يَقْصُر و بعضها يتكركر، غطسنا في حوضٍ مُرجّلٍ بالمسك و الكافور
و العنبر عند عُدوةِ الكوثر فإذا بنا أترابًا يافعينَ في خلقٍ جديد، بيضًا حُمرا،
قَطَطَ الشعر أسودها، غُرْلا كخطم الفيل، تتلألأ الزرقة من العيون،أُذِنَ لنا
بخلعٍ من ديباجٍ و ياقوت تليق بمقام الاصطفاء و الفوز. انطلقنا تحملنا على ظهورها ملائكة
يترقرق الجمان من زغبها حتى منازلنا.
قال الملك الموكل بخدمتي:
-هذا ربعُك فاسرحْ!
فإذا بي أمام قصر كأنه زمرّدةٌ
منحوتة و خلف القصر قصور لا تُحصى في العدّ كلها مطوّقة بأسوار شاهقة و إذا بألف
ألفِ جارية و غلام يستقبلونني و البشر في عيونهم كالبرق الخاطف. ثمّ حملوني على
محفّة من نورٍ حتى غرفة تجري من تحتها الأنهار و يرتع في أجوائها غريب الطير
الصّادحة و إذا بنور يجمع ألف نور يتوهّج من فوق سرير من قصب الذهب تحيط به
اليواقيت و الجواهر و تتدلى الثريات من فوقه.
و إذا بصوت كدغدغة النسيم في يوم
قائظ ينادي:
-ألا أقبل إلينا يا عبد الله
فانتبهت متتبعا الصوت فإذا بها
غادةٌ لم أرَ لمثلها شبها و لا وصفا، تفوق البدر حسنا و الشمس ضياء، فدنوت منها
فإذا هي صبيّةٌ ربّما أكعبت منذ شهر أو ينيف.
قلت:
-ما بالك يا طفلة، أين أهلك؟
قالت تغالب الحياء:
-أنا أم البنين يا عبد الله و
أطرقت خجلةَ فتضّوع المسك و القرنفل من جيدها و هسّت حبات الجمان في عقدها
المنسدل.
قلت دون أن أفكر كثيرا:
-تبا لك، و ما الذي أتي بك إلى
هنا؟!
و انتبهت فإذا المنادي ينعق
للفجر.
و كانت ليلَةً أخرى، صرٌّ و قرٌّ، ترتجف الريحُ
فيها هباءً كسُلوكِ النّدى في ضوء قمرٍ أبيض، لم تهِرَّ فيها كِلابٌ و لم يُسْمعْ
لها نبْح.
حينَ قرْطَسْتُ نفسي في الدِّثارِ رُحتُ أستجدي
الكرى أن يحلَّ، و ما قصَّرَ.
و رأيتُني أطأ جنّةً خضراءَ ببلغةٍ صفراء و عليّ
بُرْدٌ أخضرُ يتكركرُ و رأيتني أردّ باب القصرِ مُغاضبًا فيرتدّ و له وجيبٌ.
رحت أجوب النواحي يحملني النسيم على جناحه كلما
يممتُ قصرًا وجدتني -و لم يرتدّ رمشي -واقفا عند عتبته و حشد الخدم و الحشم
مُسْتقبِلِيَّ كأنهم أوقفوا منذ الأزل و فيهم من المخلّدين و البيض الكواعب ما لا
قَلمَ وصفَ و لا ثغرَ –قبْلُ- رَشف، و كلّ يدعوني بدعوته إلى تذوّق رضاب العسل و
ما طابَ في الحُلل حتى خشيتُ الهلكة على نفسي و لمّا أطَّوَّفْ بعدُ بكلّ الدّيار
و لمّا ينقضي الضُّحى و ما أحطتُ بطرف الجنان بعد.
و ملتُ إلى دوحةٍ ذات أفنان و ظلّ يسري فيه الراكب
ألفا و لا ينقطع، و عندها نبعٌ وَدِيٌّ يترقرقُ و له نميرٌ، و الورد يتمايلُ كأجراسٍ
مثقلةٍ بالرّحيق و نحلٌ كالذّهبِ السبيك يُردّد تراتيلَ ما يتلقّى من الوحي و
يفرغُ طاساته فتسيل عسلا مصفّى عند قدمي، و حانت منّي التفاتة فإذا العناقيد تدلّت
حتى سمعتها تهمس: اقطفْ يا عبد الله، فتناولت حبّةً رقّت حتى شَفَّتْ فإذا هي في
الفم عجوزٌ خندريس و إذا بقيّة القطفُ إمّاع في بركةٍ صافية كعين الديك ثم تمتدّ
حتى تبلغَ ما وراء الأفق.
و خطر لي أن اشتهيت لوزا و فستقا و بندقا مع العسل
فإذا هي مكدّسة في جفانٍ من لؤلؤ على خوانٍ من زبرجدٍ أمامي و إذا بي في همّة
جديدة كأنّ جِنّ عبقَر سكنت في مفاصلي.
قلت "لأتْبِعنَّ سببا و لأبلغنّ حدود
الأرض" و قمت من حيني فإذا بساطٌ من نور قدّامي و عليه طنافسُ و متّكأ:"
اركب يا عبد الله".
تالله ما رأيت كهذا و لا خطر! في لمحة بصر مرّت من
تحتى الريّاضُ كأنها زرابيُّ مبثوثة بكلّ لونٍ حتى لمحتُ أوتادا دُقّتْ في الأرض
تُرفرفُ فوقها راياتٌ خفّاقَةٌ نُقِشَ عليها شعار الهيئة.
سألتُ: و لمن ذاك القليصُ يبْرُقُ تحت الشمس
هناك!؟
هتف هاتفٌ خشن الصّوت ذو بحّةٍ: ذاك حِمى شيخ
الهيئة فلان، أنعمْ به من جار.
فولّيتُ مُقهقرًا و أنا أردد: تالله إنّه كاسح
الرّأس غيورٌ، أبعدوني من هنا.
و عدنا نتفقّدُ الحدّ الشرقي.
Commentaires
Enregistrer un commentaire