اندفع البغل يخِبّ كأنّ قوّةً راقصَةً استعمرت كيانه و راحت تنظّم وقعَ السّير على الآهات التي تطلقها الدواليب و تضبطها على أنين خشبات العربة و في خلفية المشهد صدى وامضٌ لطَرَقات الحمار الأسود الأنيق على الثرى الجافّ.
عند اقتراب الركب من أرض الحاج محمد تحوّل لون الطريق إلى رمال حمراء كاللهب البارد تجري خلالها بُقع من حصًى أبيض كالرماد مما حملت سيولٌ فَتَرَ عزمها فلم تطفأْ عطش الأرض.
حين تباطأ الاندفاع و سكنت آلام العربة قفز عم صالح على أطراف أصابعه منحنيا على ركبتيه حتى لا يستثير آلام مفاصله ثمّ استوي منتصبا على الرمل الطريّ.
ارتفع صوت النباح و اقترب، و تراءى عدد من الكلاب جاؤوا يطوّقون المكان بأذنابهم المرفرفة و فرائهم اللامعة بالنّدى حين تلمسها أشعة الشمس المتسرّبة من الأفق.
-يباركك الله يا حاج، ربّما أمرّ يعد ساعة لكأس شاي، أربط الكلاب.
اكتفى الحاج بحركة من رأسه، في حين كان وحش الفلاه يعلم أن لا شايَ و لا نار توقد عنده، فكلّ ذلك تبذير و مضيعة للوقت بحسب عادة الحاج المحمد و وصايا امرأته الحاذقة.
لمّا يستقرّ الضّحى بعد، و قطرات الطّل على خضرة النباتات تكشف الشحوب المخيّم على الحقول و تنذر بيوم قيظ آخر. أجال عم صالح بصره في دائرة الأفق كأنه يَشيمُ مطرًا ثم، بمقدّمة نعله أثار شيئا من التراب في الهواء قُدّامه متحسسا اتجاه الريح.
سنة قحط أخرى تقترب، يكاد أوسو ينتصف و لا بشائر بالخريف.
"الصّيف ضيف، و الخريف هو العام" ردّد بين شفتيه و استنتج أن عليه مضاعفة الجهد و شدّ الهمّة أكثر، ثمّ رفع طرف جبّته عند كتفه و مضى.
دَلف خلال فلّة في حائط الحقل عبر مسرب يخترق بحر أمواج تركها محراث فَلّت سِكّته و اخترق حدودا ترابية و جازَ أخاديدَ قديمةَ تحفّها شجيرات السكّوم و العوسج و قد تناثرت على غصيناتها حبيبات حمراء فاقعة تتهيأ للتدحرج عند كلّ حركة طارئة لتملأ قيعان النمل و مغاور اليرابيع و الخنافس.
عندما لاحت له مخازن الطوب في طرف البيدر كانت كلاب سي عامر قد أحاطت به كفُجائة القدر.
لكن السنوات السبعين عجنت القدر في جفنةِ كفّه و رقّقته و خبزته على نارٍ ذكيّةٍ لا تني تتوقّد مع الأيام.
أدخل يده في جيبه و أخرج رغيف خبز يابس كان تحايل في أخذه من مخبزة البلد الوحيدة. لا يزال شراء الخبز من السوق عيبا يصل حدّ العار، و ليس من اللائق بمقام عم صالح أن يُنعت بالفقير، المحافظة على المظهر أحد أهم وساوس أيامه و لياليه.
هشّم الكسرة إلى رقائق صغيرة و ألقاها إلى الكلاب التي سرعان ما انشغلت في اسكات عواء بطونها فنسيت عواءها و مرّ الشيخ بين ذيولها المرحّبة كالأعلام الخافقة.
سي عامر مشغول بشيء ما فلم ينتبه للطيف العابر عند عدوة المَجَرِّ أسفل البئر حيث توارى خلف بيت الطوب و منها جعل خطواته فوق الأعشاب الجافة إلى شجرة الخرّوب العجوز حيث تتدلّى ثمارها في خليط متدرّج من الأخضر إلى الأحمر إلى بنّيٍ كقرون التّيوس.
أخرج من جيب الفرملة صرّة الدقيق الأبيض و راح يرسم دائرة عند ظلّ الخروبة و طلاسم و علامات غريبة لا يفقه كنهها غيره، ثم قطع غصنا من فوقه و راح يكرّه ماحيًا البُقع التي تركتها قدماه و بين كل هذا لم يغفل عن تسجيل ملاحظاته في الذاكرة حتى و هو يتسلل مخترقا فجوة في الطابية إلى حقل لم يتسنَّ له معرفة صاحبه.
أسرع إلى طريق ضيّق قاده جنوبا و أوغل في أحراش مقفرة حتى إذا شارف القرية المجاورة نكص على عقبيه و انحاز شرقا في اتجاه المدينة عبر أزقّة من طوابي الظّلف كالأدغال.
-الحاج محمّد هبة من الله، فهو كتوم كمن ألقيَ لسانه للقطط.
قال، وحثّ السّير مترنّما ببعض أبيات من البردة. و حين أدرك العمران سمع شتائم أمعائه تتخاصم من الجوع، و يمّم شَطْرَ السوق.
يتبع
Commentaires
Enregistrer un commentaire