Accéder au contenu principal

Articles

Affichage des articles du mars, 2017

الجاموسة 7

منذ بداية الجلسة كانت يدا الأصلع تطيشان هنا و هناك تتلمّسان جسد منية، قد تبدو الحركات مُسْتفزّةً لكنها في عينيْ فاعلها و في ظروف وعيه شكل من الرومنسية الرقيقة و رقصة حبّ يقوم بها الفحل لاستثارة أنثاه. هذه المشهد لم يغب عن الآخرين، لكن للمجالس قوانينها و آدابها الرّفيعة، و السّكير المحترم هو آخر من يكسر القواعد. يقول القانون الغير مكتوب أنّ صاحب الشّيء هو أوّل من يتمتّع به ثم الأقرب فالأقرب مع أولوية إكرام الضيف و الكبار في السنّ و المقام، و من يخرق القانون يُتهم بفقدان الرّجولة، تهمة أثقل من جبل يُبذل في سبيل محوها الغالي و النّفيس. للصعاليك أخلاق و آداب، و أن لا تُعجب البعض فإمّا لجهلٍ بها أو لأفكارٍ سابقة، و في الحالتين فهي موجودة و شكّلت عبر التاريخ لَبِنات لثقافات و ثورات و حتّى أنظمة دُول. ظلّت منية تقاوم عبثه إلى حين، متجاهلة يده و نظرات الآخرين دون أن تُغفل الجاموسة، و لعلّ شيئا حزّ في نفوس من أُسْعِفً بومضة إدراك فشعروا بخفقَةِ غيرَة سرعان ما تغرق في أمواج النّشوة الدافئة. الجاموسة بدوره لم يكن غافلا، يختفي خلف عبوة البيرّة و سيجارة المارلبورو الأصلية، ظلّ يقظا لأمر...

الجاموسة 6

الأشهر التي قضاها في السّجن اجتمعت فجأة في ذاكرته فجعلته يشعر بالجفاف في لسانه، أما رائحة الأنثى فقد أشعلت حريقا في جوفه، لكنّ المفاجأة حالت دون امتداد النار. ظلّ يتأمّل الشكل المنحوت أمامه و الارتعاشات التي تظهر له كلما سطعت أضواء الطريق في القميص الرياضي للمرأة في ذلك الفراغ بين نهدها الأيمن المنتصب و  جانب بطنها. الصّبر صفة لا يتمتع بها الكثير، و من يكتسبها يسلك طريق الحكمة. في المنزل الذي لن يكتمل قريبا و الذي هو سقفٌ فوق مجموعة من الحيطان الحمراء، نصبوا عدّتهم. الطاولة و الكراسي تَشكيلاتٌ هندسية من الآجرّ و أخشابٌ غبّر بياضها الاسمنت و مسامير صدئة. في الحجرة الوحيدة التي يوصدها باب اصفرّ بفعل زيت الخشب استلقت مجموعة من الأغراض التي تركها عمال البناء و أكياس اسمنت مرصوفة بنظام في ركن و إلى جانبها باب خشبيّ بُسط على ارتفاع آجرّتين و فوقه مرتبة لا لونَ محدد لها و سريرٌ حديدي مُشبّك يُستعمل لتقية رَمْل البناء من الحصى و الأوساخ في وضعٍ مائلٍ ليمنع فتح الشبّاك من الخارج و جهاز راديو مُعصّبٌ بخيوط نحاسية ملوّنة لولاها لتناثرت أحشاءه. تتأجج حرارة المكان كلما انبعثت موسي...

الجاموسة 5

    عندما حشروا أنفسهم في السيّارتين و انطلقوا لمحوا سيارة الدورية تتوقّف على حافّة الطريق، ربّما شك الأعوان في شيء لكن فات أوان المطاردة، بإمكانهم التربّص حتى مرّة قادمة. استدارت السيارتان عبر أزقّة متفرّعة في حيٍّ شعبيّ و توقّفوا خلف الجامع أين نزل صاحب الفكرة ليطرق بابا جانبيا تنبعث من أسفله بعض أضواء باهتة ثم غاب لحظات تفاوض فيها مع المزوّد و منها عاد نصف مترنّح ليجلس داخل السيارة. لم يطل الانتظار طويلا .، أطلّ الرجل دافعا الباب و مشى في الزقاق خطوتين مقلبا بصره هنا و هناك و منها عاد فدخل بابا آخر. حين ظهر ثانية كان يشير إلى السيارتين بالاقتراب لحجب الرؤية أوّلا و لإخراج بضاعتهم بأنفسهم. حشروا المقتنيات بين أقدامهم مفرّقة بين العربتين و انطلقوا عبر زقاق آخر نافذٍ مما اضطرّ السائقين إلى التّحرّك في الاتّجاه الخلفي فأحدث ذلك دويّا و طقطقة مزعجةً. هذا بالضبط ما كنا نتحدّث عنه! صدفة قد تغيّر حياتك. حين صارت السيارتان في الاتجاه السّوي كانت منية تقف في الباب. ربما جلبها الدّويّ فخرجت تستطلع، ما يهمّنا هو أن السائق النصف أصلع تربطه بها علاقة سابقة و رقم هاتفها مسجّلٌ عند...

الجاموسة 4

لم يُسعفها الحظّ بإتمام دراستها الثانوية فتركت المعهد فجأة و هجرت معه تدريباتها الرياضية في بعض فروع الفريق المحلّي، لكنها لم تتخلّى عن عادة ارتداء البذلة الرياضية حتى غدت لباسها الوحيد. فقط استغنت عن ملابس النساء رغم أن بعضهم أقسم أنه رآها في كامل زينتها تتوارى خلف ظلام الأزقة لحضور حفلة عرس، قال "خسارة ذلك الجمال في عاهرة". بنيتها الرياضية مكّنتها أكثر من مرّة من الخروج من أكلح المواقف، تضرب و تركل و تقفز و تعضّ، لذلك سئم المنحرفون محاصرتها فلم يظفروا منها بشيء، أما الذين تمكّنهم من نفسها طواعية فتتخيّرهم. لا أحد يعلم بالضبط مقاييس الامتحان و لا أحد استطاع تخمين سبب إقبالها على مثل هذا السّلوك. لحسن حظ الجاموسة أو ربّما لسوئه –دعونا نفترض- كان من بين القلائل الذين رضيت عنهم منية. تلك الليلة الصافية من أواخر الصيف الماضي و احتفالا بخروج الجاموسة من السجن، و على ربوة تشرف على المدينة جلس الأصحاب على حافة الطريق المقفر و قد اختلطت في عيونهم انعكاسات الأنوار الآتية من الأسفل مع غمز النجوم. لو مرّ أحد العابرين فلن يرى غير لطخات بيضاء مُشربة بنقاط حمراء ترتفع و تنزل بار...

الجاموسة 3

منذ عشر سنوات و هو يتعرّج مع الطّريق، قاد جميع أنواع السيارات و الشاحنات و خاط الحدّ بالحدّ و جاب مسالك الصّحراء حتى الكُفرة و لربما عبر  منها إلى التشاد. اعتبره الجميع أمينا في القيادة فتنافسوا على الفوز بخدماته و أودعوه أموالهم و كان أمينا حقّا. كثيرا ما احتضن المقود و نام و في ليالي القيظ يفترشُ شيئا إلى جانب العربة و ينام، لعلّ طبيعة العمل هي التي أعطت الشكل الحالي لبطنه و مؤخرته. قضى أياما بين الإيقاف و السجن و في كلّ مرّة يخرج بتدخّلات، و كانت أسباب السَّجن واحدة: حمل ممنوعات. رغم الشقاء بين الشمس و المطر و البرد و المبيت في العراء فهو لا يشتكي. و كلّما أناخ سارع للبحث عن قناني الجعة حتى صار يعرف جميع المزوّدين في المدن كما في مداشر الغرب الشاهقة أو في قرى الجنوب النائية. في السنوات التي تلت الثورة و تمتين العلاقات مع الليبين هنا و هناك جرّب الزطلة، دخّنها باحثا عن السّعادة و باعها لطلاّبها، و في تلك الليالي تفطّن لوجود شيء اسمه منية. الكلّ يُسمّيها "العاهرة النظيفة". لا أعتقد أنّ صفة النظافة تتعلّق بالجسد، هي جميلة الوجه جدّا بشعر مقصوص و بها شيء من ا...

الجاموسة 2

 أشعل سيجارة، و أنزل يده ليدسّ الولاعة في جيبه فمرّر ما تحرر من أصابعه على بطنه و التهبت ذكرى البارحة في ذهنه من جديد فحثّ الخطى هاربا منها. لهذا السبب سمّاه أترابه "جاموسة"، كانت بطنه عظيمة، تخرج فجأة من صدره و تنزل مقوّسة لتستدير بشكل اهليجيّ مثاليّ ثمّ تختفي لتشكّل تناظرا عجيبا مع إليتيه. استيقظ الجاموسة هذا اليوم على صوت الأذان النازل على أذنيه من عُلوّ المئذنة كقرع طبول الحرب، بحلق بعينيه في ظلام الغرفة لحظة ثمّ تمتم بشيء و سحب الهاتف المحمول من تحت الوسادة و نظر فيه كالمتأمّل. مطّ شفتيه و سحبهما  و أشعل سيجارة ليُذهب بدخانها طعم فمه المرّ، و في البياض الرمادي للدخان رأى مشهد البارحة، فحرّك يده ليبدد تلك الأشباح و اندفع إلى خارج المنزل. انصرف المُصلّون و هاهو الرجل الغريب الذي عيّنته إدارة الشؤون الدينية للتنظيف يغلق الباب الخارجي و ينصرف، جلس الجاموسة على العتبة المقدّسة و استرخى مغمض العينين يستجمّ بالشمس. أما في المقهى فالمشهد هادئ إلى حدّ الآن، شخصان لا يعرفهما يرشفان مشروبهما في هدوء الظلام و لا يلتفتان، أما النادل فقد افترش فخذيه للتشهد الأخير. سحب ال...

الجاموسة 1

    كان "الجاموسة" جالسا في الشمس عند عتبة الجامع، عيناه بالكاد مفتوحتان. الشمس المائلة للغروب تسطع وجهه و بقية الصداع تُجبره على إبقاء عينيه في وضع الاسترخاء. هو في الحقيقة لم يغفل عن تأمّل مؤخرات النساء العائدات من أعمالهن، و يتخيّل وضعيات غير محتشمة تبعا للمعطيات التي ترتسم في مشهد ثلاثي الأبعاد في الشاشة السوداء المنسدلة من تحت أعلى جفنيه. البارحة كانت ليلة تمازجت فيها الألوان، من الأحمر إلى الأصفر إلى الأبيض و كلّ أطياف السواد. منذ أن أزالوا البناء الخرب خلف الجامع لم يعش ليلة كالبارحة، بعض أصحاب الملايين الجدد و الباحثين عن الشهرة قاموا بضم الخربة إلى الجامع و بذلك قطعوا تسلسل تلك السهرات مما اضطرّ الجاموسة و الرفاق للبحث عن مكان آخر. المأوى الجديد كئيبٌ نوعا ما، فهو رغم الحماية من تقلبات الطقس و وجود الحنفية و الحمّام و عدة حجرات منفصلة لا يتوفّر على مشهد السماء المفتوحة و لا خضرة الإعشاب الطفيلية بألوانها المتغيّرة و لا الحركات المباغتة لبعض الحشرات التي اكتسبت بموجب الجوار حقّ الاحترام. قد يبدو الأمر مشوبا بالغرابة و النشاز أو عصيّا على الفهم، لكن من منظورٍ...

مذكرات عبسلام24

الموسم3 الحلقة 24 تقطّع حبل الرؤيا و تلوّى و استدقّ حتى تماسك من بعدُ و اتّصل و منها عاد كابزيمٍ   ( 1)   ممدود تتوهّج خلاله أليافٌ من زجاج ثمّ بصَقَ ما حملَ في وعاءِ دماغ عبسلام الباطن. كانت البرقية واضحة بقدَر ما سمح بها دفَقُ الألياف الأثيرية المنهكة يعد ما نفذت خلال تلك الأسوار المتينة: "أنت الدوائرُ و المدارْ أنت المُحاصَر و الحصار أنت البُحيْرَةُ و البِحارْ أنت  المسافر و المسار فاتبعْ نسائمَ في الجدارْ لو كنت تدري كُورُندارْ   (2) يا عبسلام، إنّ القوم مكروا مكرهم و أعرضوا و إنّهم لجاهلون، و لنقطعنّ دابرهم مُصبحين، فاصبر، و إنّ الصبح قريب". و انقطع الاتصال و كأنّ الابزيم  سُلّ فجأةً من رأس الصَمّام الموصول إلى صدغ عبسلام، فأحدث ذلك تشْتَشَةً و علا رأسه شيء كالرَّهج تلته انقباضةٌ في صدر عبسلام و حسرةٌ كاد يكون لها نوء في العين لولا جُنَّةُ النّوم. و تململ في مرقده و قد تغشّى المكانَ ألُف سلام. في الأعالي، بين فجاج الوادي، توافدت أعاصير الرّياح يأزّ بعضها بعضا بفعل منخفض جوّي استقرّ فجأة فوق الصخور فبدا كأنّه ثُقبٌ يسحب إليه ...

مذكرات عبسلام 23

الموسم3 الحلقة 23 في الخارج، حيث كان الملك و حاشيته يرقبون خبر السماء و أعناقهم مشرئبّةٌ تطاول الأعالي، حطّت حمامتان زرقاوان على فنَنٍ قريبٍ ثم تسافدتا. صاح الملك: -تبّا! هذان ملكان متجسّدان، أدركي ابنتك يا امرأة! إنّهما يتناكحان الأن في المخدع! و أطلقت المرأة زغرودةً اخترقت صمت الوادي، بينما انقضّت الجارية رتاج تعانق الملكة و قد هزّها الفرح فانتشت حتى كاد يسقط عنها رداؤها. و كاد يُغمى على الوزير و شيوخه و راحوا يتساءلون عن القدرة الخارقة التي يملكها هذا الفاني، و تغلغل الحسد في قلوبهم حتى ران عليها و بيّتوا له أمرا. قال صاحب الطيلسان يخاطب الملك: -مولاي! وجب نكحه مرّتين في السّاحة يوم السوق، تلك حدود الله فلا تعتدوها، و اعلم يا مولايَ أنّ اقامة حدٍّ من حدود الله خيرٌ من أن تُمتطر سبعينَ خريفا، فالحزم يا مولاي و لا يغرّنّكم نجاة كريمتكم ألاّ تعدلوا، اعدلوا هو أقربُ للتقوى. أدرك الملك القصد فأضمرها في نفسه و نوى أن يعاقب الطرفين لاحقا فوعده بالنظر في الأمر، و أسرع يطرق الباب يستعجل إخراجهما من الخدر. و حين عُرّجَ البابُ بدا له جليّا أنّ قميص عبسلام قدّ من قبُل ...

مذكرات عبسلام 22

الموسم3 الحلقة 22 قال عبسلام: أخرجوا جميعكم فتحسّسوا خَبَر السّماء، و لا يبقى معنا غير وصيفتها هذه! و أشار إلى أشدّهنّ حسنا، و قال: ما اسمك يا فتاة؟ قالت: رتاج فقام عبسلام يلطمُ و يحثو بيديه على رأسه: أُحاذِرُ أنْ أُدْعَى وَ حَوْضِي مُغَلِّقٌ__إذا كانَ يَوْمُ الوِرْدِ يَوْمَ حِجَاجِ 1 ألَمْ تَرَني عاهَدْتُ شيخي، وَإنّني__لَبَيْنَ رِتَاجٍ موصَدٍ و رِتاجِ، على قَسَمٍ، لا أنكحُ الدّهرَ ذي جِنَّةٍ__و لا خارجا مِنْ فِيَّ سوءُ لِجاجِ قومي يا أمة فاكشفي عن وجه مولاتك و اضربي بخمارك على جيبك فإنّ النيران في الحشا موقدة أبدا و قلبي جُبِلَ على عشق كلّ جميل. و دنا عبسلام من الحورية يجسّ معصمها و يتحسس نبضها و تشمم نفسها و هي في كلّ هذا لا تعي و لا تُدرك. و بين أسنانه سُمع هسيسُ كلمات: وممشوطة بالمسك قد فاح نشرهـا __ بثغـر كـأن الـدر فيـه منـظـم   2 فكّر عبسلام مليّا ثم قرّر أن ينفُخَ فيها الرّوح بأمر ربّه. -يا جارية! أميلي رأسها هكذا حتى أنفخ، فإذا نفخت فسدّي أنفها. و كان ذلك كذلك فإذا بالحورية تشهق و ترتجف كأنما أصابتها رِعدةٌ، و ما هاله إلا و ...

مذكرات عبسلام 21

الموسم3 الحلقة 21 و صاح الملك: احملوه بلطف و ترفّقوا، فإنّ بيننا و بينهم عهدا، و لا تغفلوا، فإنّه مؤيَّدٌ بشيخٍ يده تُجمّدُ الماء و تخطف أسنان الكلب إذا همّ بالنّباح. أما عبسلام فكانت روحه في عالم البرزخ تنهل من معين الرؤى و تستجمّ في بحار الملكوت. و في القصر المرصود مَدّدوه على بلاطة من رُخامٍ نضيد تتوسّط قاعة الحكم و تحلّقت نخبةٌ من الصّناديد حوله يحصون تقلّباته و يستعجلون صحوته. تصدّر الملك عرشَهُ و قد بدت ملامحُ الضّيق جليّةً في قسمات وجهه، و عن يمينه زوجته غارقة في دموعها و قد شعثَ شعرها فبدا كزرْعٍ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ القوم و بين الفينة و الأخرى تصدُر عنها آهةٌ عميقة و وَلْوَلَةٌ تقشعرّ لها المُهج و تذوبُ منها أفئدة الصّخر. صاحت المرآة: وا بُنيّتاه، وا وحيدتي، وا كبدي، غرّرَ بها هذا الفاني فأصابتها لعنة البشر، وا بنيّتي! من يُعيد إليَّ وحيدتي! و كان الوزير و معه مجموعة من مشائخ الجنّ و حكمائهم على قدم و ساق يتباحثون موضوع ابنة الملك و يتجادلون و قد بدا عليهم الإرهاق و السأم. قال أحدهم و قد خلع طيلسانه: لا أجد فيما لديّ شيئا غير نكْح الجاني تعزيرا على الملإ. ...

مذكرات عبسلام 20

الموسم3 الحلقة 20 ظلّ عبسلام يُهوّدُ عبر تلك التلال مُتّخذا الشمس دليلا حتّى أدركه المغيب في قاعٍ بعيد الغور، صفصفٍ، بين عُدْوَتين كأنّهما رُجّلَتا بمشطٍ ربّانيّ الانشاء، فما أحسّ في سفْحيهما عِوَجًا و لا رأى فيهما أمْتًا، و قد تفجَّر خلال صدوعها نباتٌ مُشرّبٌ بألوان الطّيفِ و سالت منها بعضُ عُيُونٍ فترى الماء يخرُّ حينا و يقطُرُ أحيانا حتى إذا قَرَى في وقباته و طفطفَتْ به رأيتَ له نَميرا في السّواقي حتّى يبلُغَ السّيلُ الزُّبى فيفيضُ مُكَرْكِرًا بنات الحصى فتُسْمَعَ لها في النّقعِ ضَبْحا. جلس عبسلام على فروَةٍ خضراء فعادت به الذّكرى إلى مستنقعات بلاد فارس يوم كان يطلبُ علمَ نهاوند، و لهج لسانه مستعيدا ما قال يومها: قالتْ سُميّةُ من مدحـ__ـتَ؟ فقلت: راشِدُ ابِْنَ غنّوشِ 1 لو تلمحي حالي و كيفَ__ترك الثّرى رأسي كــــــكَرّوشِ أتُرى يزيدُ هَوايَ شيْئًا__أو كانَ دَوْمًا محْضَ تحْشيشِ و استلّ النّايَ من جُعبته و راح يُزَمّرُ  حتّى غصّ فناء الوادي بألحانه. و في غمرة الحلول نسيَ عبسلام داءه و دواءه، و حينَ أراح زمّارته و أسبلها جنبه بكلّ رقّة الدنّيا هيّأ له أنه أبصرَ ...

مذكرات عبسلام 19

الموسم3 الحلقة 19  كانت العصا تتوقّد كشعلة تضخّ نورها، و قد حشرها عبسلام في صدعِ صخرة، فبدت كزهرة تبثّ أريجا يغمرُ الوادي و يملأه عطرا و شذى. و كانت أصابعه تداعب النايَ. و لا تسل عن الأنغام. انسابت الزفرات فاخترقت حواجز الصّمت، و بين جفنيه المسدلتين بدا العالم ألوانا. لو فتح عينيه لرأى حيوان الغاب يملأ حلبة الرقص و لانتبه للشجر ساجدا و لأحسّ كيف ارتخى الجبلُ غير بعيد. لكن عبسلام كان ارتقى إلى دنيا الجواهر، روحا خالصةً لا تكبّلها القيود. عندما أراح القصبة و فتح عينيه كانت أمامه... عروسٌ في حسنها و بهائها و رقّة النسيم تتأمَله بعينين من فيروز و رموشٍ كسهام الليل و شفتين كحبّتي كَرز... يا الله! و كأنّ عبسلام صنمٌ قدّ من حجر، و قد عهدناه رابط الجأش! يا الله! أبعد أن نجا من الجاثوم تلك الليلة النّحس، يُسْلَبُ إرادته و بأسه! آالآن يا الله! مرّت لحظات... كحجر صوّان ألقي في الثلج. و ذاب الثلج على جبينه كحبّات الجمان. و مالت فطبعت قبلة على شفتيه و انصرفت حتى توارت في شقٍّ بين أخاديد الوادي. و دون أن يدري امتدّت يداه فما قبضتا إلا السراب. أإنْسٌ أم ابنة ال...

مذكرات عبسلام 18

الموسم3 الحلقة 18  أغميَ على عبسلام و وجده بعض السابلة أصيلا ممدّدا على المقعد الحجريّ تحت شجرة الحور تلك عند حائط مكتب البريد. قال أحدهم و أقسم أنّه رأى أطيافا تحوم حولَ رأسه و لها ظلال، و أيّده آخرون. حينَ أفاق كانت الشمس آذنت بغروب و العصافير عادت بطانا، فحوّمت حينا حتى أتمّت رقصتها و ثمّ خلدت إلى لذيذ أحلامها، و فيما بين ذلك سلحتْ فلعلّ شيئا وقع على رأس عبسلام. تزوّد من بعض الحوانيت بشيء من قوتٍ فأنفق فيه آخر ما بقيَ في صرّته ثم دسّ كل شيء في جِرابين أسدِلا على عاتقه و رفعَ عصاه. طلع القمر و خطا يُقبّلُ النّجم لمّا أسرعت سحابةٌ ورديّة كبتلة وردة فكادت تخفي المشهد حياءً لولا رِقَّةُ روحها، فخُيِّل لعبسلام أنه يرى علم بلاده يرفرف في سماء الأطلس. وسوس لنفسه "ما هو إلا خرقة بالية تُخفي حفنة ترابٍ عفن" و تفل عن يساره و ضرب في الأرض. عجّل القمر في أفوله مستبقا عبسلام نحو الغرب و حجبته الجبال، و غاب السّاري فلم يَرَ شَبَحه أحد. و أطلّت بعض نُجوم فتهامست و تغامزت فلم يَدرِ عبسلام ما قالتْ و لا همّه من أمرها شيئا. حين جاوز طرف القرية ابتلعه الظلام و بات سابحا...

مذكرات عبسلام 17

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموسم3 الحلقة17 جمَعَ عبسلام شواردَ نفسِه و ركّزَها بينَ عيْنيْهِ حتى كاد من ثِقَلها يتأجَّجُ صُدْغاه فبدتْ كزبيبةٍ من أثر السّجود، و حبّات العرق تتابعتْ مُنْحدِرَةً على جبهته و وجْنَتيْه بينما عيناه بالكادِ تبينان. لو أنّ مُتأمّلا أرجَعَ البصَرَ لرأى الوهَجَ يَصّاعَدُ خلالَ شُعيْراتِ رأْسِه المنتَصبة. و اُطْلِقَتْ الإشارة حَزُمًا خَفِيَّةً كأضْغاثٍِ من أثير تَخْرُقُ حُجُبَ الفضاء و تَفُضّ أخْتامَ الغُيوب. كانت السّماء نَقِيَّةً في صفائها كحمامَةِ سلام لا تشوبُ طُهْرَها ريبةٌ و لا يَمُسُّ جناحَها لُغوب، و الرّيحُ ساكِنَةٌ إلا من نسيم. نزَقَتْ الهمهماتُ بيْنَ عَمَدِ لا تُرى و نَفَذَتْ بينَ أقطار الأعالي فأحْدَثَ ذلكَ شيئا كَحَشْرَجَةٍ في حَلْقِ السّماء و زمْجرَةً بعيدَةً رُئِيَ لها شَرَرٌ كَقَدحٍ وَحيٍّ بالزناد فظلّت كذلك ساهمةً لحظة أو قَدْرَ ما ينْقَطِعُ زفير، ثمّ عادتْ طَقْطَقَةً كإفتِراعِ  فقاعَاتٍ على هشيم. في الأفقِ الأعلى وُلِدَتْ نجْمة، و هناكَ، كجِسْرٍ بينَ قِمّتين امتَدَّ قوسُ قُزح. و كارتداد الطّرفِ، عا...

مذكرات عبسلام 16

الموسم3 الحلقة16 جمع أغراضه القليلة و غادر و لسانه يلهج بالحمد حتى غدا على حافّة الطريق. كان الطّريق خاليا إلا من بعض سيّارات مسرعة لا تتوقّف، و عن شماله يمتدّ الملح في قيعانه متلألئا كنجوم سالتْ من مآقي السماء فرقا على حاله. أخذه المشهد حدّ الاندهاش فراح يدبّ على مَهَلٍ بمحاذاة الشاطئ و يردد: أخَدُّكِ هذا يا ابنةَ الشّيخ يبرُقُ! إذا ما النّسيمُ هبّ و الفجر يُشرقُ! ملكتِ فؤادي منذُ كان وِصالُك فيا ليتني في ماء ثغرك أغرَقُ و ظلّ كذلك ساهما لا يعي ما حوله و قد أخذه الشوق فلم ينتبهْ لدورية الحرس تستوقفه. قال عبسلام: أنا رسول الشيخ فلا يغرّنّكم أسمالي و شعثي و حذائي الذي يشبه ثغرها المتبسّم... أرسل إشارة إلى رئيسك و اعلم أنّكَ مُسخّرٌ لي بموجب الإيلاف الذي بين شيخي و رئيسك. كاد الحرس أن يهمّوا به في ذلك الخلاء المدقع لو أن حشرج البوق في السيارة و إذا هو الوزير يستحثّهم أن يعثروا على عبسلام و أن يكونوا في خدمته حتى آخر نقطة البلاد. و كاد الحرس أن يخرّوا صَعَقًا... و على أبواب العامرية طلب منهم أن ينصرفوا، فلا حاجة له بهم. و كان الوقت ضُحى. و في القرية ر...