Fiction
9-
ودّعت المكان و غلّقت الأبواب و ألقيت نظرة أخيرة مليئة
بالحسرة و الأمل ثم أخذت مكاني في السيارة.
كان صندوق الحديد ذي العجلات مثل فرن مغلق أحاطت به النار
من كلّ اتّجاه، و لولا أنّ السائق ادارك الأمر بفتح الأبواب لاستحال داخل السيارة
إلى غرفة بخار في حمام قديم.
جلست في الخلف من جهة اليمين بينما صاحب النظارات إلى
جانبي على اليسار وراء السائق الذي بدا
كأنه سُرّيَ عنه، أما الطويل فعلى المقعد الأمامي. و هكذا انطلقت الرحلة إلى
الخروج.
لم يخطر ببالي أن يكون الإتجاه نحو الجنوب، يفترض أن يكون
مكان العبور عند البحر كما فعل موسى الخرافي، غير أننا دون أدنى شك، نتجه فعليا
نحو الجنوب و نوغل مبتعدين عن البحر. الجنوب يعني الخلاء المدقع و الصمت الرهيب، إذ منذ أن تمترست روما
الجديدة خلف جدرانها الشاهقة ساحبة معها ما سلم من عديدها و عتادها خلت الصحراء من
كل بشر، حتى المدن القديمة و القرى العامرة هجرها سكانها إلى الشمال، تاركين كل
شيء لعواء الريح و سفع الرمال. وحدها حقول النفط حصنت بالمتاريس و الحرس و الدخان الأسود
كتنانين استشاطت غضبا فراحت تنفث نارا و غبارا.
الطريق، أو ما بقي من أثر الطريق طمرته الأتربة و احتلت
ضفتاه النبات الزاحفة على إثر كل قطر، النباتات تعلمت أن لا تفرط في الفرص القليلة
للحياة، تقبل عليها بكل اندفاع و جرأة و لا يدبّ اليأس في خلاياها و لا تكلّ، و في
اندفاعها ذاك لا تتحدث كثيرا و لا تثرثر كما يفعل البشر.
اتجهنا نحو الجنوب، لا شيء في الأفق. ابتلعتنا الرمال.
بحر لا متناه من الرمال، و بعض الجزر الجرداء في شكل تلال
يسكنها الحصى و الخنافس.
كلما تقدمت السيارة أكثر أحاطت بنا الرمال أكثر، و كل
مسافة تؤكد ابتعادنا المتسارع عن الناس، الطبيعة تعيد تجميع نفسها لتشن غاراتها من
جديد، الصحراء تزحف أيضا نحو الشمال، تتحرّق شوقا لتلحق قوافل الذين غادروها، هذا
زمن الصحراء و لا جدال.
حين دارت العجلات على التراب تحرك الهواء من حولنا ملطفا
حرارة العربة شيئا ما، لكنه ظلّ مشبعا بالرطوبة التي تجعل الأجساد لزجة و مقرفة خاصة
مع هذا الغبار المتسرّب من كلّ مكان و هو ما صبغ الوجوه و الثياب بلون باهت و شاحب
أضفى مزيدا من الكآبة على المسافرين. كان السائق في كلّ مرّة يمسح جبينه و رقبته
بمنديل أبيض لم يحتفظ من بياضه إلا ببعض الذكريات، و حين لم يتبق أثر منها اضطرّ
لتجاهل الأمر.
Commentaires
Enregistrer un commentaire