Fiction
7-
صاح الطويل ضجرا:
-يكفي
هذا، نمرّ الآن إلى بيتك ( و أشار بيده الضخمة ناحية
البيت القديم)، ستأخذ القليل من الثياب، لن تحتاج هناك لشيء، الملابس و الطعام
و الورق و الأقلام و الكمبيوتر و كل شيء، عندنا الكثير و زيادة، تقدم وكفّ عن
التصرف كالأطفال!
-على
الأقل خبّروني عن هذا الـ"الخروج"! من أين و لماذا و كيف!
و
لأول مرة نطق الفتى الضخم متأففا:
-سنخرج
من هذا العالم إلى الفضاء الرحب، إلى المرّيخ، لم يعد لنا بقاء هنا على هذه الأرض
التي فاضت بالحروب و امتلأت بالدم... صمت... هل استوعبت الآن!؟
لم
أستوعب شيئا، لكنها بدت فكرة رائعة: عالم جديد و حياة جديدة و آفاق جديدة... كل
شيء جديد... و السلام و الهدوء.
سألت،
ربما كان آخر سؤال:
-و
من هم الذين سيخرجون؟ لا تقل لي...
قال صاحب النظارتين مقاطعا كالمستدرك و مبتسما ابتسامة عريضة
مستشعرا نجاح مهمته:
-أناس
مثلي مثلك، كلنا سئمنا ما يحدث... نريد الحياة فقط... ثم أضاف:
قلت لك، سيعجبك الأمر.
- و من أين سنخرج؟ لا تقل أنّ عليّ الذهاب معكم إلى الشرق؟!
أجاب
ببداهة جليّة:
-سنغادر
من هنا، كل الأماكن متشابهة.
هذا
العصر المزري شهد حروبا و فوضى قد تفوق ما سجله التاريخ مجتمعا. كانت أكثر دموية مما مضى، ورائحة الخراب تفوح
من كل زاوية و ركن بالقرف و الضجيج.
روما
الجديدة اندحرت تحت الطرق المنظم لسيوف البدو الهمج حين اندفعوا كالريح الجافة من
صحاريهم في خفة الجوع و القحط.
من
الشرق أتوا و من الجنوب، ملتفّين بأقدارهم الخرقاء و بشيء من التمر المجفّف و
الكثير من الصّياح.
ارتدّت
روما إلى حصونها و غلّقت الأبواب. و في الخارج ذوى كلّ شيء.
حصن
هنا و حصنٌ هناك، سريعا ما تأكله النار التي لا تطفأ، كأنها تستمدّ أنفاسها من
العدم.
و كلما امتدّ
الخراب إلى الشمال أكثر، تستعيد الصحراء هدوءها و تغرق في النوم و النسيان، أو، لعلها
تستعيد حياتها.
و
في غمرة الطوفان، ظهر ألف زعيم و قائد و مخلّص، كلٌّ يدّعي العصمة و شيء من نبوّة
الأوّلين، كأن أخاديد الأرض تمخّضت في الآن نفسه لتلفظ أرحامُها جثث الأنبياء المعفّرة
بالرغام المقدّس و غبار السّنين العفن، جثث فارغة إلا من بريق الخبث المزركش
بالقاني و اللامع كالسّراب المقيت في بعض فجاجات الصحاري الموبوءة بالصّفرة و
البعوض.
و
هكذا، إن لم تكن ظلا لزعيم قائد مخلّص فأنت عدوّ.
في
هذا البحر المتماوج من العفن عليك أن تحدد اتجاه الريح التي ستحملك إلى الموت و
الرّدى، و حين تظنّ أنّك اتخذت قرارك بالتّعفّن في مكانك المنعزل، تسلّط الريح
عليك سياطها اللاسعة لتدفعك كبقية قدر أحمق تذكّرك على حافّة النسيان.
أخذ
الفتى الضخم يحرّك يديه ضجرا و راقصا بقدميه تارة إلى الأمام و تارة إلى الخلف
كأنه يحثّ الجميع على التقدّم دون أن ينبس بكلمة رغم أنه كان جليّا لا يزال يحتفظ
ببعض صبره. حين علمت بأمر السيّارة عرفت أنه السائق،إذ لم يكن منذ ظهرَ مهتما بغير
إتمام المهمة و كأن على رأسه اجتمعت عقباه الصحراء كلها.
و
كان له ما أراد.
و
انطلقنا عائدين إلى البيت القديم.
Commentaires
Enregistrer un commentaire