Accéder au contenu principal

سفر الخروج 8

Fiction


8-
على وقع الخطوات التي تراكمت سلكنا الطريق، التراب الهشّ مثل أمواج ترتدّ على الشاطئ هناك بعيدا، و أشجار الزيتون و اللوز و الغلال كأنها جزر عُزلت عن بعضها فأغمضت عيونها و مدّت أذرعها تتحسس لها موطأ قدم آمن، بينما مالت الشمس من عليائها لتسقط رويدا رويدا في عين غطّتها حمرة الشفقُ فبدت كأنّما أصابها التهاب من أثر القذى الذي رمته الريح، و بعد لأي ستفقد وهجها و تمتلئ بالسواد الحالك.
ملأت حقيبة صغيرة من ذلك النوع الذي يحمل على الظهر و دسَسْتُ فيها بعض الثياب التي رأيت أنها ملائمة لسفر قالوا لي أنه لن يدوم طويلا، ملابس مختلفة و سراويل قصيرة تأهّبا ليوم حارّ على بعض الشواطئ، (ألم يكن الخروج في تلك الحكاية من بعض الشواطئ؟) و أخرى وقعت في يدي فرصصتها في الفراغات الجانبية و هكذا تدبّرت الأمر على عجل.
السائق هو الفتى الضخم، كما خمّنت تماما. أخذ مكانه و ظل يعبث بأصابعه على لوحة القيادة و الانزعاج يلتهم ملامحه، لولا أوامر زعيمهم لكنت مقيّدا في صندوق السيارة.
أما الآخران فقد رافقاني إلى البيت بين شكّ و يقين أن ألوذ بالفرار، غير أني صرت الآن أكثر حرصا على السفر معهما.
لبث الطويل خلف الباب الخشبيّ المتهرئ، فكرت أنّ عليّ تغييره في أقرب فرصة، لا أعرف لماذا انتابني هذا الشعور فمنذ أقمت هنا لم أشاهد طيف إنسان غير خيالي في مرآة قديمة غشيها ضباب الزمن، لم يعد أحد يمرّ من هنا، بل لا أحد في الجوار و لا حتى على مسافة كلمترات... الجميع سلك الدروب المؤدية للشمال، مدينة واحدة لا أطراف لها تكتظّ بموتى الأحياء و لم يعد هنا لهم شيء يستحقّ البقاء خارج هذا العصر الجديد كأنّ سلاسلَ أثيريّة تسحبهم فينقادون بكلّ رضا. ربّما كنت آخر بشر يتنفّس على مرمى البصر، غير أنه خطر في بالي أن لن أحظى بفرصة! ربما لن أعود أبدا، في هذا العالم المضطرب بلا أمن، لا تدري متى يداهمك الرحيل...
وقف صاحب النظارتين يتفحص من خلف حاجز زجاجه السميك أكداس الأوراق و أكوام الكتب المرصوفة بغير نظام، وأحيانا يتناول أحدها فيتصفّحه برهة ثم يمر لغيره. و بطرف عيني لمحته يقرأ بانتباه شديد إحدى المسودات، "جيّّد!"، قلت في نفسي، "لا زال هناك من يقرأ!"، المتمدنون الجدد في أحياء الصفيح هم أيضا لا يقرؤون.
تذكرت فجأة أن مخزون الأوراق عندي يحتضر، وأن الحصول على كمية أخرى يكاد يكون مستحيلا. فرحت أستغلّ الأوراق النصف فارغة، و حين لم تجد كل المحاولات لجأت إلى صناعة بعض الأوراق، صنعت أوراقا، نعم. ألم يكونوا في الماضي يصنعون أوراقا؟ في الحقيقة لم أخترع شيئا، كان الأمر بسيطا، ذكرى من الماضي: ذات يوم حدثتني أمي عن طريقة صنع الورق و الكثير من الأشياء التي أضحت الآن تطفو من أعماق بعيدة كلما احتجتها. الوحدة و الحاجة تعلمانك استعادة تفاصيلِ تكون حسبتها طويت في النسيان.
لا أنسى أبدا الأشياء التي أحبها و دقائق الذكريات التي وُشمت على جدران القلب.
فكرة مضحكة!
و ما الأمر الذي لا يثير الضحك بل السخرية في هذه الحياة؟!

جرب أن تشاهد حياتك من الأعلى، تسلّق قمّة جبل و دع حياتك و حياة الآخرين في الأسفل، ثم تأمّل.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...