Fiction
10-
ألم تجدوا وسيلة أنعم من هذه، ألم تسمعوا بالمكيفات و
السيارات الرباعية و قارئ الاسطوانات؟!
قال الطويل غير عابئ:
-هذا
ما يسمّى التقشّف.
و كأن الطريق لا تنتهي، و كأنه لم تكن هنا حياة، و كأن لا رعاة
تتبعوا بقطعانهم الكلأ، و لا أطفال تسابقوا و عيونهم ترقب اطلالة ذئب، و كأن لا
قطاع طرق تسللوا حذرين هربا من الحرس أو ترصدوا قافلة، و كأن لا عاشق تتبع أثر حبيبته
عبر المسالك المعتمة!
لم يبق شيء، حتى الأطلال أسلمت أمرها يأسا و اندسّت في لامبالاة
تحت حجاب الرمال لتبدو لمن رماه الحظ كأنها بقايا تلال استهانت بها عساكر الريح.
المساحات التي كانت في الماضي حقولا خصبة فقدت كلّ ملامحها،
فقط هكذا. فقدت صفاتها و حدودها و صارت أقرب إلى أدغال موحشة و كئيبة تتعانق فيها نباتات
لم تكن تجرؤ يوما على الوقوف هناك في حين سلّمت أشجار الفاكهة أمرها للطيور و
القوارض فاتخذت منها أوكارا و بيوتا.
مالت الشمس الآن كثيرا كمن أدركه التعب، لكن سهامها لا
زالت متوهجة كالجمر، قريبا يحلّ الظلام و يبتلع كلّ شيء. تجمعت بعض السحب من جديد
استعداد للغروب، كأنها قدمت لتعطيَ الليل لونه القديم و تعتصر من بقايا النهار لون
الشفق ثم تعود من حيث جاءت غير مهتمّة بما يقال.
و حين ارتدّ آخر شعاع للشمس إلى غمده خيّمت صُفرةٌ قاتمة
على مدى الأفق تحولت شيئا فشيئا إلى رماد بارد كأنه لم يخف تحته منذ قليل جمرا
ملتهبا، في حين تحوّلت السماء إلى قبّة متألّقة بالسواد و بدأت عناقيد النجوم تُسرج
بعضها في رشاقة و أناقة مدهشتين. في حين بدا المكان ينحدر في خفّة ليبسط سهلا مستويا
تحدّه من الجهة المقابلة هضاب شاهقة تسدّ قوس الأفق.
لا أعرف كم مضى من الوقت منذ أن غادرنا، ربما ساعتان ربما
ثلاثة، أيّ أهميّة لذلك الآن! هرب الوقت من ساعة المعصم و شاشة الهاتف السائلة و
عاد يتمطط بين أحضان الشمس و القمر.
ما أشعر به الآن هو تيبّس مؤلم في المفاصل و عيون مثقلة
بالنعاس و قرقرة الجوع في البطن و رغبة جارفة في حمام دافئ، لكن لم يسألني أحد عن
شعوري، ربما لأنه شعور مشترك.
ظهر قمر أحمر من جهة الشرق فامتزجت صفرة الرمال بلون الدم
و امتدّ ظل العربة ملتويا باتجاه الغرب كوحش ملّ الوحدة فآثر رفقتنا إلى المجهول. كانت
الأضواء الأمامية للسيارة تخترق جسد الظلام المنحلّ كحزمتين من السهام البيضاء فتفتته
غبارا ذهبيا و تحرره من سجنه الكئيب ليهتزّ راقصا متماوجا في عنف من تاقت نفسه
طويلا إلى الفضاء الرّحب، فانطلق غير مبال بشيء.
Commentaires
Enregistrer un commentaire