Fiction
12-
تقدم مرافقي المتبقي ناحية الركن الداخليّ و طرق طرقتين
خفيفتين على باب لم أتبيّن وجوده من قبل. ثم دعاني للدخول.
مكتب بسيط لا أثر للبذخ فيه، طاولة كبيرة عليها أكداس من
الملفات مصفوفة بإتقان، كرسيان بسيطان من خشب مطليان بلون بنيّ غامق، رفوف متتابعة
من كتب و صناديق مليئة بالوثائق. أريكتان من جلد أصفر فاقع جلبتا الانتباه حين استدرت
برأسي أستكشف المكان و كدت أرسل ضحكة ساخرة لكني تداركت الأمر سريعا، هل كانا من
جلد البقرة الصفراء؟!
هارون يجلس في أريكةٍ تكاد تبتلعه، بدا مشغولا في ما بين
يديه من أوراق فأستغرق وقتا قبل أن يسند القلم برقّة على الطاولة و يطويَ السجلّ
ثم يترك نظارتيه تنسدلان بلطف كقلادة على صدره. يبدو أن الأعمال كلها أُلقيت على
عاتقه و ربّما كان يكافأ على ذلك بالتقريع.
قال هارون و هو يستدير واقفا حول مكتبه رافعا يديه لاستقبالي
كما لو كنا صديقين طال غيابهما و التقيا ذات صدفة سعيدة:
-كما
توقعنا بالضبط، مرحبا بك في مدينتنا الفاضلة، يسعدنا حضورك جدا، أخي موسى سيُسرّ
كثيرا بقبولك دعوته.
قلت مازحا:
-يالها
من دعوة! لا تختلف كثيرا عن اختطاف مؤدّب.
-آسفون
حقا، هل كنت ستقبل دعوة غريبة إلى مكان مجهول؟ لا أحد يفعل من تلقاء نفسه، على كل
حال أنت مرحّبٌ بك هنا، عندي أوامر بتوفير كل أسباب الراحة و تمكينك من كل المعلومات،
الآن بإمكانك أن ترتاح و غدا سيحملك يوشع في جولة في المكان و يشرح كلّ شيء. لا تنسى
أن كل ما تطلبه مجاب.
ثم طلب من يوشع أن يرافقني إلى غرفتي.
موسى ثم هارون و الآن يوشع، لا أعرف من سألقى من بني
اسرائيل أيضا! ربما يناديني يهوه من نافذة الغرفة ذات فجر عاصف بصوته المدوّي: يا
هذا، هوه، أنت، لا أعرف اسمك لكن عليك أن تغيّر أفكارك السابقة و تكتب عني شيئا
جميلا، لقد أقلعت عن الدماء و أصبحت أحبّ
القهوة و الخُضر الطازجة و صرت أكتب الشعر و منذ مدّة بتّ أحلم كثيرا بالبحر و
الفراشات حنى أنّي أنشأت لنفسي حديقة جديدة ليس فيها شجرة تفاح و غرست عند شباك
غرفتي ياسمينة و كرمة عنب أسود و الكثير من السوسن و الأرشيد الأسود تحت أشجار
اللوز، و قلعت السدرة و حولت مجرى الأنهار إلى الداخل و طليت الجدران بالأبيض و
الأزرق، الأبيض و الأسود و الأزرق ألواني المفضلّة، و أفكر لاحقا في تغيير اسمي، ما
رأيك؟
في الخارج صار القمر أكبر و هو يتوسّط السماء، فبدا الشارع
كأنه بركة تتلألأ بالنور كلما تحرّكت الأغصان
الرقيقة للأشجار و النباتات الغارقة لتوّها في أحلام من اللذة الصافية.
صحبني يوشع إلى غرفتي في الطابق الثاني عند آخر الطريق
الذي تتفرّع عنه ستّة أزقّة عن اليمين و مثلها على اليسار ثم ودّعني إلى لقاء قريب
غدا صباحا. كانت الغرفة بمرافقها و نوافذها الكبيرة تطلّ على حديقة خلفية كثيرة
الشجر تنتهي حيث ينبت الجرف فجأة من بين صخور عظيمة.
جلت
داخل الغرفة و ألقيت نظرات فاحصة على المكان، خزانة واسعة و رفوف عليها مجموعة كتب
مختلفة بلغات متعددة أكثرها تدخل ضمن الخيال العلمي، كان السرير واسعا و وثيرا،
مربّع الشكل دون حواف يؤلّف مع رفوف الكتب و المائدة البلورية بينهما نموذجا مما
كان يسمى الفن التشكيلي المعاصر و على السرير لحاف مطرّز بزهور حمراء و أطيار حول
بركة ماء صافِية و في كلّ زاوية نقش لطائر
بألوان زاهية لم أر مثله من قبل رسمت كلّها بأسلوب عصيٍّ على الفهم، و على اليمين
باب الحمّام بمقبض ذهبيٍّ و مربعات من الزجاج المعتّم بالأزرق و الأحمر و الأخضر،
و خلف الباب خزانة بها مناشف ملوّنة و مرصوفة بعناية و عبوات مختلفة الأحجام من
مستحضرات العناية و عند الجدار المقابل حوض الاستحمام الواسع يجعل الغرفة كلها
تسبح في زرقة بحرية هادئة ذات يوم صيفيّ كسول، قلت في نفسي و قد انحنيت أتحقق من
وجود مياه ساخنة لا بدّ أنها أعدّت خصّيصا للضيوف العابرين، دائما يوجد ضيوف، و
دائما نقدّم للضيف أحسن ما عندنا.
انساب
الماء دافئا ساكنا في البداية ثم أطلق سحابة من بخار أغرتني بالاسترخاء، فتركت
الحوض يمتلأ.
عندما
تخلّصت من ملابسي و تركت الماء يغمر جسدي المنهك لم أكن أفكر في شيء، سحبت نفسا
عميقا و أغمضت عينيّ و تركت الماء المتماوج يغطي وجهي و أطرقت السمع لأصوات بدت
كأنها انبعثت من عالم آخر عابرة الأكوان و سدُمَ المجرات و الكواكب لتمتصها
الحيطان ثم تلفظها في هدوء و انسياب عبر حوض الماء الساخن، ضربات مطرقة و ارتداد
أبواب و همهمات لكائنات بعيدة و وقع خطى متقطعٍ لكعب عال و حشرجة محرّكات لآلات
مجهولة و نقرات منتظمة ربما لآلة كاتبة و أصوات أخرى تموت قبل أن تحدث صرخاتها وجيبا.
عندما
فتحت عينًا تحت الماء متهيّئا لسحب نفسٍ طويل آخر لمحت خيالا متكسّرا لامرأة.
Commentaires
Enregistrer un commentaire