قصة قصيرة
السَّخَّان
مع اقتراب عطلة الصيف من نهايتها خطر لآلة تسخين
ماء الحمام أن تتعطل نهائيا.
في
الحقيقة، كانت قد نبّهت أكثر من مرة. فهذه الآلة كانت وفية جدا، و من وجهة نظرها
فإنها تصرفت كعضوٍ مسؤول و مؤهل لأن يكون فردا في العائلة. على كل حال، فبعد أكثر من ثلاث عشرة سنة من الألفة
المتبادلة لا بد من الفراق، الفراق حتمي بلا شك.
العقدة
ليست هنا، فصل الصيف ينفر فيه الجميع من الماء الساخن، و بما أن ضيفنا الصيف لا
يغادر ديارنا إلا تاركا مكانه للقيظ فإنه لم تكن هناك ضرورة للعجلة، دائما هناك
"آخر وقت" و ساعة واحدة يمكن فيها تدارك عمل أيام. لا أذكر تماما أين
قرأت الجملة "في اللحظة التي يتحرك فيها الكسول فإنه يبدو كالفيض الذي لا
يوقفه شيء". و كان الأمر كذلك.
و هكذا
كانت اللحظة الحاسمة: وقفت أم البنين أمامي و يداها على خصرها. في ظرف آخر قد يكون المشهد
شاعريا لو أضفنا إليه بعض طيور تتلألأ ألوانها تحت ضوء خافت عكسته السحب الخريفية
التي تزاحمت لتوها لتبارك مشهدا مقدسا، و يمكن سكب شيء من العطر على أجنحة النسائم
العليلة من دوار البحر، وهكذا...
لكن
لا شيء من هذا
.
وقفت أم
البنين قاطعة طريق الخروج، أصابعها مفتوحة تماما على خاصرتيها، صدرها إلى الأمام و
الرأس مرفوعة في شموخ... موقف مستفز لشاعر رقيق الإحساس
. لنتوقف عن هذا، لا يحق لكم تخيل بقية المشهد.
لنعد إلى
آلة التسخين اللعينة، فحتى إن حازت بالتقادم على عضوية في العائلة فهي تبقى مثل
هذا القط الخبيث الذي يهرهر متمسحا بقدمي- "شيئا" يمكن الاستغناء عنه أو
استبداله ولا يستحق ذلك جدارية مثل هذه التي استغرقت ساعة ثم لا يقرؤها أحد. قلت أن العقدة ليست تداول الفصول ولا أن تصبح الأشياء غير
نفسها فتُنفَخَ فيا أرواح، لا أحد يهتم بالإحسان على طريقة الروحانيين ولا تعني له
وحدة الوجود شيئا ولا حتى تناسخ الأرواح، لا أحد يشعر أنه كان ذات عصرٍ وردةً في
بستان، تبًّا، اللغة خبيثة... تخيل نفسك وردة... أوه!
لأختصرْ
هذا الهراء: نظرا
لعلمي و قناعتي الثابتة أن هذه الآلة اُستُنفِذتْ تماما فقد قررنا (أعرف أن
"قررنا" تخفي ثلاثة أرباع الحقيقة، لذلك سأعوّل على انتباهكم)، قررنا أن
نقتني آلة أخرى. ليس أيسر من هذا في بلد يستهلك كل شيء، حتى الآلهة تباع و تشترى
تماما مثل أكداس التمر و أكداس القمامة التي يُعاد تدويرها بسم آلهة الطبيعة إلى
بطوننا في شكل رُقًى باستعارات كيميائية شرعية. كل اللغات خدّاعة، لكن اللغة
الشرقية خبيثة، لذلك فهي تبقى في الأرض ولا تقبلها السماء.
السماء...
ما أجمل السماء حين تضع لامة الحرب و ترتدي مغفرها. طبعا، فلولا ذلك لما انتصبت أم البنين أمامي بذلك
الاستفزاز المغري للحرب.
جميل.
بعد أيام من المطاردة استطعت أن أحاصر ذلك الشخص
الذي يسمونه "السمكري" او ما نسميه بترجمة ركيكة من الفرنسية "لحّام صحّي" plombier، ليس سهلا أن تحصل على سمكري في بلادي، تعرفون
ذلك، طبعا بإمكانكم الحصول على ألف دكتوراه في النووي مؤشرة من مجلس فيانا وعليها
بصمة البرادعي شخصيا، لكن ليس خدمة بسيطة من سمكري تجاوز مرحلة فك الخط بشيء من
الخبرة والشحوم.
كانت خدعة
رشيقة (لن أوردها هنا) استدرجته بها رغم أن الفاصل بيننا عرض الطريق.
تم ذلك
بعد جهد أسبوع و صبر حمار و أذن مثقوبة.
جاء
السمكري إذن حاملا عدّته كالطبيب الجراح الذي يرزح تحت عبئ الوقت. سحبته من يده
إلى المحلات القريبة و استطعت ربح فارق بلغ ثلاثين دينارا، و الحقيقة كان ذلك بفضل
السمكري.
طبعا لكل
شيء مقابل، ذلك أن صاحبي بكل رباطة جأش بيّت التدبير و أضمر الحصول على الآلة
القديمة، فهي بعد كل شيء من معدن طيب و نسب فرنسي أصيل. و لم أر مانعا بدوري، و
أيضا، بكل رباطة جأش أن نعيد النظر في الأجرة، طبعا بعد انجاز العمل.
و كان
الأمر كذلك مع دعوات بالبركة و الازدهار.
تقف أم
البنين الآن بشموخِ ملكة (تذكرني الكلمة بتلك العبارة المتداولة عند الأخوات في
الله: ملكة في بيت زوجي) و قطرات من الرذاذ تسيل على الأسيل، و في تلك اللحظة يلمع
سؤال في ذهني و يواصل لمعانه: كيف للماء الذي في العادة يخمد النار أن يلهبها؟ في
ذات الوهلة التي لمع فيها السؤال و هَمَتْ بعض قطرات الطّلى قفز القط من أعلى
الجدار لتحدث قدماه الأماميتان صوتا ثقيلا و مكتوما (تأثير الفيتامينات التي
يلتهمها)، ما شد انتباهي في تلك الوهلة هو مواءه الغاضب الذي يخفي خيبة تسببت فيها
عوامل خارجية خارقة.
يمكن فتح
قوس هنا: للقط أكثر من عشرين صوتا، تقابل في عددها الحروف الفينيقية الأصيلة
(المعلومة قد تهم جماعة التطور بالقدر نفسه الذي قد يرفع به جماعة الإعجاز أعجازهم
بالتسبيح).
و بحكم علاقتي الحميمة بالهررة فقد انتهيت إلى
أن القط استعجل الرجوع إلى المنزل تحسبا لهطول المطر، و رصيَ من الغنيمة بالإياب،
و لذلك كان مواءه غضبًا و حسرة.
ألم أقل أنّ اللغات خدّاعة و ماكرة! لا تختلف كثيرا عن لغة القطط إلا بمقدار ست حروف مستحدثة!
سأعود صباحا
لأرى إن كان أحدٌ ما وقع في ترّهات الثمانية و عشرين حرفا.
أما الآن الأفضل
أن أتحقق بنفسي من جدوى هذه الآلة التي تعمل بالغاز ضمن مشروع رئاسي بدأ انجازه
زين العابدين بن علي و تتمعش الآن شركة الكهرباء منه.
Commentaires
Enregistrer un commentaire