انتهت اللعبة بتبادل السباب.
هو في الواقع قُطعت قطعا، و تدخّل الحاضرون و النادل العجوز الذي يهابه الجميع و رفع الكؤوس قبل أن يُصدّعها الدويّ و الأوراق قبل أن يطيّرها الغضب، و خفتت الأصوات في حناجرها و احتقنت في الصدور.
كان الوقت أصيلا، و نسائم الربيع تهبّ و قد غُلثت بكتل من دخان عوادم السيارات و ألسنةٍ من روائح شِواءٍ مُثقلَةٍ من المطاعم المجاورة. كلّ تلك الترّهات تمتصّها شجرة الـficus التي تظلل باب المقهى فتختنق بها الحشرات و تسقط على رؤوس الجالسين و تختفي بين طيات ثيابهم و في كؤوس المشروب.
تفرّق المتخاصمون كعادتهم، ليس إلى منازلهم و إنما إلى مجموعات أخرى، الوقت يتمطط و ساعة الغروب على بعد أميال، و الرجوع إلى المنزل قبل الظلام ضجر و افتعال مشاكل مع الأمّهات كما الآباء، تعرفون هذا، و من صار أبا فها قد ذكّرته.
مرّت المشاهد أمام عيني حين التقيت صدفةً أحد رفاق المعهد ممن حضروا حادثة المقهى و ما تلاها في الغد.
في المعهد كان الجوّ خانقا، شهرٌ وحيد متبقٍّ لعبور السراط، و الأساتدة كأنّ على رؤوسهم الطّير و الشّمس مرّت لإنضاج التوت و المشمش بعد أن أجهزت على الفول الذي كنا نخطفه من الحقول المجاورة للمعهد، أيام قليلة و تمرّ لإنضاج الرؤوس.
فتحي و صالح تغيّبا كالعادة. أستاذ العربية لا يهتم بتسجيل المتغيّبين و أحيانا ينسى خربشة إمضائه في السّجل، و إن سجّل فهما لا يهتمّان، كانا عندهما اتفاق مع الناظر على خمس بطاقات دخول مجانية كل ثلاثي فإن تجاوزاها فكلّ غياب بإنذار...
وجدت "طارق" عند الباب ينتظر.
ما رأيك
هل عندك ثمن قهوة؟
و انحدرنا إلى المقهى.
هذا أمر عاديّ، أستاذ العربية المتصبب عرقا دائما يكتفي لتمرير الدرس المملّ بهؤلاء المحاريث الذين يلزمون وجهه في المفاعد الأولى بنظاراتهم السّميكة كأن كلّ بلّورة منها قعر زجاجة مهشّمة. أغبياء كما هو الحال دوما. و الدليل العدد الذي تحصلت عليه في الامتحانين الأول و الثاني الذي جعل عاصفة تثور في فناجينهم المملوءة بالتنّوة و التي لن يتبصّر فيها متشوّف. درديّ يُحرق داخل تعشيقات السيستام.
الشمس في شرقها تطلب كبد السماء و نحن نصارع الخطوات نحو المعهد.
عند الباب وجدنا فتحي و صالح مستندان إلى شجرة الصفصاف و حولهما مراد و لَنْوَر و جمع من الزملاء و قد ارتفعت الأصوات و ارتعشت الأيادي و ما ما كُبت البارحة على إثر جولة الورق تلك انفجر الآن.
في رُكن آخر تُروى قصة أخرى. عادل و خالد، الصديقان المتلازمان كالظل ضبطهما أستاذ العربية-و هو يحرق نفسه- يتداعبان... للأمانة التاريخية تضاربت الروايات فلم أتمكّن من تمييز الفاعل من المفعول، ما أعرفه أن أحدهما غدا شخصية مشهورة على الصعيد الوطني.
حصّة الانجليزية بدأت و الأستاذ منتظرا تقاعده يتهالك على كرسيه و ما تبقّى من شعر رأسه لا تفارقه القشعريرة. لا أحد يتنفّس إلا بإذن و الوشوشة جرأة على عرش التاج البريطاني.
يسأل و يجيبون، هؤلاء المحاريث في المقاعد الأولى لا يسأمون في انتظامهم المقيت و في عجزهم عن قراءة ما بعُد عن أنوفهم.
-i’m doing my best here and pupils never care as if they were…
لم أعد أذكر ما قال بالتحديد لكن طعم الردّ لايزال على طرف لساني. همست بين أسناني:
fuck you
قالها من قبل أستاذ العربية: نحن نحترق كالشمعة من أجلكم، و كان ردّي بين أسناني فصيحا.
أنتم أصلا تحرقوننا بترّهاتكم الخصبة، و الشارع مليء بالحمير، فما حاجتنا لحمير مثقفين.
كنت في المقعد الأخير أتوسّد خدّي على حافة النافذة، عين و أذن للدرس و الأخريان لزقزقة العصافير و المشاهد التي تصل إلىّ من الشارع. أما يدي اليمنى فكانت تخطّ ردّا بالأنجليزية على الطاولة لفتاة لن أعرفها أبدا، الطاولات وقتها كانت مثل الفيسبوك اليوم، و كان الردّ جوابا على تعليق:
I’am afraid of falling in love with you
كتبت:
Never read my writings
سامية التي تجلس إلى جانبي تتعمّد إظهار الفُتحة الطويلة في ثوبها لتكشف عن فخذها الأحمر الطريّ. نجوى التي تجلس أمامي حذّرتني منها سابقا، و لكني كنت مهتمّا أكثر بنهدها المنتصب دائما وراء المنديل المدرسي اللعين و الذي كنت أتعمّد همزه بمرفقي، و لا زلت أتساءل إن ظلّ كما هو إلى اليوم. كانت غايتها نقل أجوبة الامتحان و كانت تحصل عليها بمقدار.
أما نجوى فكانت وحدها قصّة أخرى.
انتهت الحصّة. و في الخارج تجمّعنا من جديد، راحة الساعة العاشرة أطول و تحلو السجائر إن لم تنغّص صفوها إطلالة القيّم، و هو يعرفنا فردا فردا و آباءنا و أجدادنا و لا يجد حرجا و لا مانعا في الضرب... و معه الإذن المسبق و الموافقة التامة.
هذه الراحة كانت متميّزة. مراد الغبيّ ذو الجسم الرياضي [الذي كان يشتري لنا الكسكروتات (صاندويتشات) في رمضان و لا يتذوقها] و الذي التزم الآن بنظام السلف الصالح و لَنور ذي الوجه الملائكي و النظارتين التين تعطيان انطباعا بأنك تقف أمام أحد منظّري الأممية و السروال الرياضي الأزرق يُقوّض أسس البيروقراطية و انتهازية السلطة...
كلاهما الآن في حالة من الالتباس الثوري. مراد يريد ردّ الاعتبار بعد هزيمة البارحة و يتهم لَنْور بالخداع و التزوير، و لنور بمكر السياسي و سفسطة الجدال الماركسي يُعلن الاشتراكية و ديكتاتورية البروليتاريا.
انتهى الصراع الفكري و الثورة على الإقطاع بإشراقه نور... في لحظة خاطفة ينقضّ مراد على لنور و يجعل سرواله في كعبيه. ربّما كانت تلك الحادثة بداية لمستقبل لامع و اسم أشهر من نار على علم في دنيا السياسة في جمهورية السراويل المخلوعة.
ألم أقل لكم أن السيستام هو مجموعة دوائر مُعشّقة يحترق من أجلها الجميع و لا يرحم ربّك فيه أحدا.
Commentaires
Enregistrer un commentaire