عادت منية تجلس مكان الأصلع، تفحّصت علب السجائر أمامها فوجدتها كلّها علامات رديئة، لمحها الجاموسة فأخرج علبته الفاخرة مشيرا لها.
كان بينها و بينه جثتان تتنفسان،
الأول أرخى رأسه حتى ألقاه على ركبته بينما يده اليسرى لازالت تقبض على عبوة
فكأنها تيبّست هناك، الثاني نفدت بطاريات وعيه و تركته على وضع الابتسام و يده اليمنى
في حركةٍ بين التسبيح و نقرٍ على بيانو خفِيَ إلا عن عينه بينما يده اليسرى استحالت فيها عبوة الجعة إلى عصا المايسترو.
اقتربت منه عبر الفراغ الضيّق بين الحالمين
و طاولة الآجر و حين مالت ليشعل لها اللفافة استيقظت الروح في الجثة الأولى فرفع
رأسه لتصطدم عينه بمؤخّرة منية، و قبل أن يعود ليطأطئ رأسه اندفعت يده لتقرص إلية
الفتاة.
تمتم صوت من الطّرف الآخر: "عاهرة"
و عاد يجترّ أحلامه.
في الخارج يُخيّم الظلام و الهواء
أثقلته الرطوبة و الغبار النازل من الأعالي، و السّكون له حشرجات حين تنفخ أنفاسٌ
قِبْليّةٌ وهَجا يتسرّب عبر فتحات الأبواب و يصفع جدرانا جدرانًا حمراء فيُسمع لها
أنين متقطّعٌ سُرعان ما تُطبق عليه الأسقُفُ و تغصّ به لتُفْتَحَ أبوابُ البيوت
على مصراعيها باستغاثةٍ و أمنيَةٍ باردة.
تقريبا نام الجميع في أماكنهم،
السّكارى ينامون لا شكّ، و إلا لما كانت العربدات المترنّحة تأزَرُ إلى جحورها فجرًا
لتساور أحلامًا أفعوانيةً و تنساب الطريق أمام الشّمس.
كيف تجرؤ امرأة أن تدعوَ رجلا إن لم
تكن عاهرة؟! كأنّ السؤال لمع في ذهنه، لكن الذين يعرفون الطريق لا يسألون.
سحبته إلى الحجرة و استلقت على
السرير.
السكارى كما الصعاليك، لهم آداب و
قِيَم، لا صعلكة دون خمر و لا سُكر دون رَحيق، و السّكّير الجيّد مثل الصعلوك
الجيّد يكتم مشاعره و أسراره كما يكتم أنفاسه لحظة يصبّ الخمر في حلقه. الرّقّة
مذمّة و الشّدة فخرٌ ، و من أبدى سرائرَ نفسه أشارت له الأصابع بالخزي.
حالت بطنه دون حاجته، و في لحظات
هياجه تلك أمرها أن تجثو أمامه على أربع.
اللذّة عمياء، مثل الموت. و في الموت
لذّةٌ تخفى على العاقل، و السّكير كما الصعلوك عاقل و العقل جُنّة، أمّا الجنون
فكشف و سفرٌ... دعنا من هذا.
تعشق منية تأمّل الموت في عيون
الرّجال و تنتشي حين تُسكبُ آخر قطرة روحٍ من مآقٍ صافيةٍ لم يعد فيها عنوان
ليسقطوا صرعى على صدرها.
هذا موتٌ جديد لم تُجرّبه من قبل،
لذلك مدّت ذراعها و سحبت الوسادة من تحت رأسها لتشهد فَناءً جديدا.
"عاهرة نظيفة"، الأسماء لا
تُطلقُ جزافا أبدا، كأنّها عُلّقت في رقاب أصحابها منذ الأزل.
حين أصبحت في متناوله تماما، ضجّت
الروح في كومة اللحم المترهّل لتتحرر من سجنها لحظات.
كان ذلك البارحة، اليوم و هو يسترجع
شريط الأحداث كان قلبه يخفق. نظر إلى بطنه و تمتم شيئا ثم قام.
Commentaires
Enregistrer un commentaire