الموسم3
الحلقة29
دار عبسلام حول نفسه حتى صار على أطراف أصابعه و يداه
تُعامدان السّماء و النجوم تطوف حوله و سربٌ من حمام و بعض وطاويط. رقص كـلولبٍ حتى
أنهكه الوجود فتهاوى كشهاب.
فوق سقف القلعة
وجد متأمّلا و فسحَةً من سَكَن، ما طالت الرّحلة إلى هنا بالقدر الذي خشيَ معه أن
تفتُر همّته و يدمى قلبه، المناظر خلاّبة و الجوّ بديع و ما جاء يبحث عنه كأنّه
كُشف له من أول شمّة نسيم. فهم السرّ الذي جعل الأولين يملكون البلاد و العباد من
هذه القلاع الحمراء و لم يبقَ إلا أن يعلم شيخه، و لعلّ الشيخ علم و اكتفى.
باغتته فكرة أنّ شيخه يعلم السرّ و النوايا، فتسائل
لماذا يقحمني دروب المهالك و المخاطر! و خطر له أن الشّيخ يعدّه لأمر عظيم، فابتسم
و هدهدته الفكرة فنام.
في الصباح تسلل نازلا إلى دروب المدينة فجال في بطاحها و
أزقّتها و داعبته فكرة أن يرسله شيخه فيفتح الأندلس و بستردّ قلاع الثغور و يمضيَ قدما حتى يعبُر جبال البرنس على خطى
الغافقيّ و عنبسة بن سحيم، لكنه أطرد الفكرة و فضّل حنّبعل و مدينة روما يفتحها
راكبا فيلا و في يده مصحف. ارتعب لجلال المشهد و سرعان ما هشّ الفكرة بأصابعه
كأنّه يَنُشّ ذبابة رَكَستْ على جبهته.
قضى يومه يهيم في الأزقّة حتى انحسر الظلّ فآثر الخروج
إلى البساتين. و بين الظّلال الوارفة و الأفنان المثقلة تراخى للمقيل بعد أن
طَعِمَ ما اشتهته روجه الجوعى لكلّ طعم لذيذ.
رأى نفسه يعبر الزّقاق في مركبٍ مجلّل بالورود و على
جبينه أكاليل من غارٍ و جيده مُطوّق بالياسمين و لمح خياله يتهادى في دروب الأندلس
و غمامةٌ بيضاء تُظلّله و حوله ألف غادَةٍ انصهرت في قسماتهنّ خشونة الصحراء و
رقّة الجنان. تمايلن حوله على نغمات المالوف حينا و بان بياض سيقاهنّ حين دَبَكن
الفلامنكو، و كاد عبسلام يضيع.
و في اللحظة التي كاد يضيع فيها انشقّت الشماء و تبددت
الغمامة و بان وجه شيخه:
-يا عبسلام يا ولدي ما أذنّا لك! عد يا ولدي حيث كنت.
-شيخي و قرّة عيني! ما بعد مرّاكش إلا العُدْوة! و قد عجلت
إليها لترضى!
-لا يا ولدي، قد كفيناك ذلك، تُفتحُ الأندلسُ من شرقها يا
ولدي، أمّا مراكش و الرباط فحلفاؤنا، تبدّل العصر يا بُنيّ، فاترك الأمر لي و من حيثُ
أنت ولّ وجهك برّ السّودان فإنّي أخشى ثورة الزّنج هناك.
-مولاي! قد ثار الزّنج من قبل فأذنْ لي آتيك بخبر الحمار
و صاحبه.
-لن تفعل يا عبسلام! قد حرّمنا عليك من قبل تلك النواحي حتى
في الخيال فاسلك من حينك طريق الملح إلى مالي و منها إلى غانة و سنجار و تزوّد بالماء
و اعلم أنّ خير الزّاد التقوى يا ولدي، فاحذر الغواني فإنّهن كحرّ النار يا بُؤبؤ عيني
و مهجة قلبي يا عِبْسْ!
و غمز له.
و أغلقَتْ كُوّةُ السماء على تلك الغمزة و عبسلام شاخصٌ ببصره
لا يقوى على حركة و لا نفس. و ألفى نفسه ينتحب و قد مالت الشمس فلسعته و حمارٌ ذكرٌ
واقفٌ يتشممه.
نترك عبسلام يطوي الصّحراء و قيعان الملح و القار حتى يُدرك
القبائل و البطون و يأخذ منها العهود و المواثيق و يُعبّد لشيخه الطريق.
Commentaires
Enregistrer un commentaire