"أمّي سالمة" تنفخ في الأثافيّ حين هجم لصّ. رأت أثر قدميه على الرّمال و تبيّنت أثر ثُعبان زحف إلى خبائها.
و انكمش الظّل و صدرها انقبض.
لم يكن عندها شيء يُسرق، ولدها الرّضيع نائم و الجمل يجترّ طعامه غير عابئ و بعض متاع تكوّم على حصير و زوجها اغتدى إمّا يطلبُ رزقا أو يطلُبُه ثأر.
الحظّ؟
الحظّ بخت أو زهر، أو معًا.
منذ الفجر سكنت الرّيح و استدار الأفق رصاصيّا، و النّار في مجمرها تصاعد دخانها الأسود مستقيما فغشّى القدر، و لم تعبأ القدر و لا الذّبابات الرّاقصة بين الظلّ و الشّمس.
سنح طائر طويل العُنق و حوّم برهةً ثمّ برح مخلّفا أثرا لامعًا كالسراب. مرّ فارسٌ على سرجٍ بلون الزّهر و العطش، أردى الفارس اللصّ بطلقة و جرّه حيث تغرب الشمس ثمّ جلسَ غير بعيد و لم ينبس و لم يملأ قربته الفارغة.
و انشقّ خلفه الغبار.
جثت "أمي سالمة" حيث يغفو رضيعها و اطمأنّت، لمّا يتسلّل الثعبان إلى هنا و لعلّه مرّ. تحسّست تميمة معلّقة في ثوبه و انحنت تُقبّل جبهته حين دوّت طلقة يتيمة.
عاد الزّوج و لم يفكّر حين لمح الفارس، في الصحراء لا يفكّر الناس، يبادرون فقط، و البقاء فعل لا أماني.
-"احزمي متاعك إنّا راحلون غدا".
همّت أن تخبره عن اللص و الفارس، لكن الكلام هذَرٌ و قطرات ماء تضيع، الريح فقط لا تعطش فلا تخرس.
تلك الليلة تسلل الحنش. برد الصحراء و دفء الخباء و الحظّ. لدغ الثعبان الزّوج ،و جمل و فَرَسان و المتاعُ في أوعيته و الطّائر طويل العنق أشار إلى الشمال.
***
وادي القرى لم ينجُ منه غير ثنيّة أقفرت و قضمتها حقول الزّيتون. المباني و القصور و الحمّامات و السواقي و المعاصر و القناطر و السّواري نُقلت حجارتها و تناسخت فصارت مساجد تفيء إليها الظلال.
منذ ألف سنة و هم يجتمعون إلى القرية الجديدة تَجْمُلُهُمْ بجِمالهم و جَمالهم و قُبحهم و تُزيل عنهم وعثاء الترحال و تُرجّل بالدّهن رؤوسهم و الطّريق، و مفرقها بالقِباب و أطرافها بالآبار.
طوّقوا الفتنة بالأبراج و المراصد فتسوّرت بالأشواك، قصفوا الحجارة بالمدافع فضربت حجابا من طين، رفعوا المآذن فرفعت السناجق، منعوا عنها الكتب فاتّبعت الطّرق. ضرب السلطان طبول نصره في الساحة ألف مرّة فرقصوا على قرعها ساخرين، نصب المشانق للقصاص فجفّفوا المستنقعات، أثقل الضرائب فإُسْقِطَ في الحُسبان.
ألفت "أمّي سالمة" نفسها عند تخوم القرية و الليل يرخي جناحه فدقّت أوتاد الخباء على عجل. مصابيح تضيء هنا و هناك و نيران تتوقّد و نجوم تلمع و ثغاء و رغاء و نباح يتّصل و يتقطّع و غدا يكون التدبير.
Commentaires
Enregistrer un commentaire