Accéder au contenu principal

ميشلان


دفع "ميشلان" باب الڨاراج* برفقٍ ما أن انصرف آخر الرّفاق.
في قعر الڨاراج ممر خلفي يؤدّي مباشرة إلى زريبة الدار، و الزريبة نعمة في حدّ ذاتها، فزيادةَ على النسيم الشمالي التي توفّره أيام القيظ فإنها تلعب دور العازل الصوتي في الليالي الصّاخبة، و ما أكثرها.
عبَر ميشلان الممر فكاد يدهس الأرنب العجوز في طريقه و متحسسا بيديه حجارة الحيطان حتى أفضى إلى الهواء الجاف و ضاقت حدقتاه قليلا حين أحسّتا تلك البُهرة الخافتة من قبل الشرق.
لم يبقَ إلا القليل و ينبلج الفجر، غسل يديه و وجهه في السبّالة و مضمض و استنثر ثم أهال حفنة من الماء على رأسه و رقبته و مضى كأنه يصعد درجا ملتويا غير مرئيّ ليوقظ "عم الهادي" لصلاة الفجر  و ينظر في حوائج العجوز قبل أن يخلد للنوم.
ميشلان هو وحيد أبويه، و لم تنجب محبوبة غيره. يقول عم الهادي "قعْدتْ نُقْبة في قلبي" لذلك فلا ينفكّ يكرر وصيته لإبنه "أريد اثني عشر صبيّا قبل أن أموت".
يخرج عم الهادي من الباب الأمامي يدبّ على عصاه إلى المسجد و منه إلى الباب الأمامي للڨاراج فيدفعه بعصاه و يجلس.
و بحنكة الخبير المتمرّس يدقّ بالسبّابة على حكّة النفّة ثم يديرها بين السبابة و الإبهام حتى تعتدل  فلا يتناثر المسحوق عند الفتح و يبقى جالسا حتى يلتئم المجلس و تتسع الحلقة.

دائما ما يكون سي يونس هو أول القادمين، فمباشرة بعد ضحكة صلاة الصبح في المسجد يرتدّ إلى الدار لتناول فطور الصباح على عجل ثم يلتحق بعم الهادي ليشعل الكانون و "يُرَكِّحَ" البرّاد و هو الخبير الملمّ بكلّ طقوس العملية.
ربما كان مناسبا لنا الدخول إلى المسجد رفقة هؤلاء الآباء لنشهد الصبح حاضرة:
سي ڨدّور صاحب "كيوف"، إذ أن "كيفا" واحدا لا يملأ رأسه أبدا، فهو أحيانا يتمادى في النّوم حتى تشرق الشمس، و بما أنه يعيش وحيدا في الزاوية القريبة فهو يتظاهر بالصمم و لا يفتح الباب للطارقين، و أحيانا يبلغ به الانزعاج فيسبَّ من طرِقَ بابه و قد ينعت أمّه بالعاهرة و لا حرج في ذلك، فهم -أي الكبار يخفون عنا ما يعرفون، على كل حال فلم يتسبب ذلك في مشاكل لأحد، أما الصلاة فيمكن تأجيلها ما أن يحلّ الضحى، جماعةَ و بوضوء كامل و أذان خفيف. و إن لم يعجبك هذا فصلِّ في دارك فمفتاح الجامع جزء من شخصية سي ڨدّور.
و المسجد على عهد "الجدورة" غير المسجد على عهد الخَلف الحاضر. سي ڨدور تعجبه سورة الإنسان فيقسمها بين الركعتين في صلاة الصبح، ويقرؤها في نفَسٍ واحد، فإن خانه النفس انفرط العقد و يظلّ يردد آخر كلمة لعلّ أحدا يسعفه، لكن لا يتلقّى إلا:
آش لزّك
أطلِعْ م الرّمل
علاش تتفافى
 و ربما حكم أحدهم في سره أنها صلاة باطلة... لكن لا أحد يفكّر في إعادتها.
و هذا حدث عادي بالمقارنة مع الالتحاق المفاجئ و أحيانا المباغت لسي يوسف، فإن أدرك الصفّ وقوفا دغدغ "عم علي بوستّة"من رقبته و همز سي يونس من جنبه، وقتها يختلط الحابل بالنابل و يسقط على الأقل أربعة ضحايا، و مع تزايد القهقهات و الصرخات يلتفت سي ڨدور في غضب مهددا "بش تركحوا و إلا نبطّل" ثم يعود فإذا به قد أضاع الخيط فينحنى مباشرة للركوع في حين يكون سي يوسف قد ملأ الخشوع قلبه واقفا في طرف الصفّ كأنه هناك منذ الأزل...
أما إن أدركهم راكعين، فيطوف عليهم بإصبعه واحد واحدا حتى يأخذ مكانه.
و آخر مغادر يردّ الباب دون أن يوصده، فكثيرون سيمرون لتدارك الصبح عند الضحى.
يتبع
ــــــــــــــ
*garage بمعنى ورشة أو مستودع    

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...