Accéder au contenu principal

 ميشلان


لعلّكم انتبهتم أن عم الهادي لم يتناول إفطاره بعد، مكتفيا بـــ"دَڨّة"1 النّفة الصباحية و كأس الشاي الثقيل، على كل فإنّ ذلك لم يكن سهوا من الكاتب، فإفطار عم الهادي يخضع لطقوس مقدسة.
الشمس الآن في السماء، و كلما تقدّم الضحى انحسر الظلّ و بعد قليل لن يعود هناك متسع للجلوس.
دبّت الحركة في الطرقات و ها هو سالم الحاج بصدره المنفوخ و أنفه الشامخ يمشي مزهوّا كالطاووس و لا يسلّم، كان ينتظر أن يبدأ القوم بتحيته. موظّف في الحيّ الإداري يجب أن يبادر الناس بالسلام عليه، يُفترض هكذا-ظنّ سالم ولد الحاج.
طبعا، عند عم الهادي و جلساءه ذلك يعادل دسّ الأنفِ في الرّغام.
سالم ولد الحاج كان يزجرُ البغل، ضاغطا بكلّ قوّته على المحراث عندما توقّفت سيارة الحرس و معهم "الشيخ"2 ذاك الصباح الخريفيّ و أخذوا الشابّ سالم بكر والديه و أمروه بأن يحضر في ذات المساء إلى مكتب الشيخ ليستلم صباح الغد وظيفة كاتب في أحد مكاتب الحيّ الإداري.
الشاب سالم من القلائل الذين عرفوا فكّ الخط، و بعض الفضل يعود لجدّه الذي عاشر الفرنسيس مدة من الزمن.
يُقال أن الحاج والده ندَبَ وجهه و امتنع عن الطعام أياما لتلك الخسارة الفادحة خاصّة و أن العامَ خصْبٌ و سالم هو من يقوم بكل الأعمال في الحقل، و عليه الآن أن يقطع المال من كبده و يعطيه للعمّال.
في تلك اللحظة مرّ "الزّنّ" على شبه درّاجة يوزّع الحليب و يتمايل بين طرفي الطريق، و يتمكّن بعد جهد من ضبط توازنه ليسحب من صندوق الخشب المربوط خلفه قارورة زجاجية لازالت دافئة بعض الشيء لعم الهادي، و ينصرف متمايلا كما جاء. عندها دخل "البعرة" ولد عبد الله إلى الڨاراج حتى انتهى إلى أقصاه و غاب بُرهةً في الظلام، و حين ظهر من جديد كان يحمل في يده بيضتين واحدة بلونٍ أصفر باهت و الآخر بلون أقرب إلى البنفسجيّ اللامع و مدهما إلى عم الهادي الذي سوّى في الحال "كدْرونَهُ"3 في حجره فاستقرتا هناك. و حين انتبه للون البيضة البنفسجي حكم أنها "عظمة فتوح" "للعتوقة"4 الحمراء، و شعر بشيء من الزّهو، فحملها بين أصابعه و تأملها في الضوء و هو يقول: "شتلة قليلة، أوصيت "البرني" فجاءني بحارة من "فريڨا"5 و لم تنجح إلا هذه.
و لو سمحت الذاكرة سنعود لسلالة هذه العتوقة في مرة قادمة.
استقرّ عم الهادي الآن و تناول البيضتين فثقبهما من الجهتين و امتصّهما في الحين و رمى القوقعتين فانضمتا إلى الربوة الصغيرة التي يتفرّع حولها مِسْربان ثم يعودا فيلتقيان من الجهتين.
ثم يلعق شفتيه بلسانه قبل أن يبتلع لِتْرَ الحليب في نفس واحد فلا تسمع إلا بقبَقَةً مكتومة سريعا ما تخمد لتتحوّل إلى لُهاثٍ متسارع صادرٍ من أنف عم الهادي.

و تكون تلك هي الإشارة للانتقال إلى الضفّة المقابلة من الطريق.

ــــــــــــــــ
1-كمّية أو مقدار النفة التي يحملها الإصبع
2 العمدة
3 لباس من صوف منسوج
4 أول بيضة تبيضها العتوقة لتصبح بعدها دجاجة بالغة
5 حوض القمح بالشمال التونسي

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...