سلّم الإمام منهيا صلاة الظّهر
ثم التفت إلى مأموميه مبتدرا التسبيحات. عَبَثا حاولوا اقناعه أن المعقّبات لا
تُتلى جماعةً و أن ذلك مخالف للسنّة. عبثا كان.
خمسون عاما مرّت و هو في محرابه
ذاك لا يحيد عما تعلّمه من شيخه الإمام، و لهذا ورث الإمامة و المفاتيح معا.
همّ سي ڨدّور الأن يبتدر
السُّبحة و إذ بأحدهم يرفع صوته زاجرا. كان أحد الأعضاء الدائمين في المسجد يُعنّف
في ما يبدو أحد الرّواد الجدد الذين أوقعتهم لاقطات البث الفضائي.
قال العجوز و هو يرغي: التاحيات
الزاكيات هكذا و أطبق الوسطى على الابهام و حرّك السبّابة، لا تتركْ الفراغ أبدا
بين الوسطى و الإبهام فإنّ سيّدنا علي فعل ذلك فمرق الشيطان من تلك الفتحة و لكنه
استطاع مسكه و هو سيدنا علي و ليس أنت... و أتبع ذلك في غضب: لا أدري من أين تأتون بهذه البدع.
همّ الحريف الجديد أن يحتجّ و
يدحض الحجّة مما تعلّمه من قنوات البوخاري و لكن سي ڨدّور كان قد مسك طرف الحديث.
كلامه يقطر دُررا: إن جئتَ تتعلّم علّمناك و إن جئت تُعلّمنا طردناك. ينتهي.
كان ذلك منذ سنوات خلت. أما
الآن فهو لا ينظر إلى أولائك الزبائن و لا يُقيم لهم وزنا، إذا حلّ الوقت جاءه
أحدهم فقاده إلى عُدّة الصوت فأذّن ثم تحسس طريقه إلى المحراب فجلس و منها يُقيم و
يفتتح، حتى إذا سلّم أعادوه إلى ركنه في الزّاوية. كان يريد الإستقالة لكن...
لسكّان الحيّ هو جدار الصدّ الذي يجب أن لا ينقضّ.
هو الآن مستلقٍ في الحجرة و
الباب مفتوح تمرّ منه نسائم باردة إلى الشبّاك و بعض النّور الذي ينركُ بُهْرَةً
كرداءٍ لا هوَ أبيضَ و لا هوَ أصفَرَ أسدِلَ إمام عينيه.
منذ أن مسح البياضُ ما بقيَ من
سوادِ مقلتيه كفّ عن استفزاز خصومه و ترك غيظهم تُذكيه ريحُ الجنوب.
في الماضي، كانت البَرَكة تتنزّل
بغير ذعاء، و ذاك العام بكّر الخريف و أصبح سي ڨدّور في المحطّة يترقّب، صبّح
بالجماعة نقْرًا مستعجلا قُدوم الحافلة الأولى و تركهم يُسبّحون و مضى يسبح وحده
في الغسق.
لقيَ في المحطّة بعض
"السّارحين"، فلاّح البرّ يسرح إلى غَوْرِه و فلاّح البحر يسرح إلى
هَوْرِه، لكلّ قومٍ لسانهم! لاحت المركبة تتهادى كخفّة الهواء المنعش و النّدى و قد
خمدت رمضاء الأرض بغيث تواصل أياما.
بذَرَتهم الحافلة على جنبات
الطريق كحبّات فول على حرْثٍ جديد و مضت تطلب رزقها بعيدا.
تجوّل سي ڨدّور في الحقل و
تفقّد شجراته واحدة إثر واحدة مترفّقا في جذب الأغصان و متلمّسا العناقيد
المتلئلئة و إن لم تمسسها نار، يقرّبها من عينه السليمة و يتفحّص أحجامها و
أشكالها دون أن يغفل تسابيحه و تعاويذه.
توسّط المسافة بين زيتونتين و
حفر بأصابعه في التّراب، "اتّصل الثرى"، قال، و قرّر بذر شيء من فول. و
مضى إلى "الڨريشة" يُعدّ البرّاد.
من الحجرة التي خلع السّراق
بابها أكثر من مرّة تناهى إليه صوت ثغاء و رغاء و خوار و نقيق و أصوات أخرى. لو
سمحت له عينه لكان رأى آثار الغنم و البقر و قد نَفَشتْ في الحقل، لكنّ العين
بصيرة كما يقولون.
لعن الغنم و البقر و كل ذي
كارعٍ و خُفّ و ظلف و جناح و جيرانه الأقرب و الأبعد. جار السوء هذا مدّ سيقانه و
استولى على كلّ شيء، حتى حبل البئر غلّه بعد أن باع المحرّك الذي تطوّع به فاعل
خير صدقةً للسبيل. و لولا صلةُ قرابة لكان رفع أمره للحرس... "لكنّ الله
حسبه"، قال، و مروح يستعجل البرّاد.
جمال القصّة دائما في سطورها
الأخيرة، و لا يغني السّرد و لا الوصف المنمّق عن ذلك.
ما أن طابت الأرض للمحراث حتى
مرّ الجرّار على موعد فتمّ كَفْرُ الحُبيْبات حتى استقرّ رأيها على الإنبات و عندها
هزّت الأرضَ هزّا و اشرأبّت برؤوسها تشربُ رحيق الشّمس و القمر.
و أربَعَتِ الأرض...
و الخضرة في تلك النواحي
مغناطيس تحوّل إليها أفئدة الشعراء و تجذب العيون و الخياشيم و الأفواه أيضا.
أما الجار فقد قرّت عينه بذلك
البساط الأخضر و سُدّت منافذ النّزيف في جيوبه، ترعى قطعانه كلأً طريّا في أرض
الله، أليس يقال "المسلمون شركاء في ثلاث"! من ذا يُعارض إلا كافرٌ
بأحكام الله و رسوله!
لم تنقطع زيارات سي ڨدّور سيما
و أنه لا يدفع ثمن التذكرة، رحم الله أولاد الحلال الذين توسّطوا له في بطاقة ركوب مجانيةبسبب الإعاقة في عينه، ثم أليس هو القيّم على بيت الله! و الله لا يُضيع أهله و أولياءه أبدا.
عندما ضرب الرّبيع بعطن و بزغت
"شمس الفول" كان سي ڨدّور يمدّ خطوته الأولى خارج الحافلة.، اتّجَهَ
رأسًا إلى "الڨريشة"، أدار المفتاح ، ثمّ أجال بصره متفقّدا حتى وقعت
عينه على البرّاد فكأنّه ابتسم له فما كان منه إلا أن ردّ التحية ثمّ تأبّط كيس علفٍ كانت الريح أطارتها أليه ذات يوم و احتفظ هو بها لحاجة عسى تأتي.
ظل يُحدّث نفسه بألف أمنيةٍ، بل
قدْرَ عددِ قرون الفول التي سيجمعها: جزء
للمدمّس، و جزء للبذر ، و جزء يُجفّف مؤونةً للشتاء و ربّما يوهب منه شيئ للأحباب.
بحكم معرفتي بسي ڨدّور سأحكم
أنّه في موضوع "آتوا حقّه يوم حصاده" سيتحوّل إلى غير مذهب مالك الذي
يفرض الزكاة في الفول و الحمّص و الجلبّان، بل إن لزم الأمر سيُخرجه من الملّة
أيضا.
و هرول مسبشرا نازلا إلى موضع
باقلاّءاته.
و اضحٌ أنه طاف عليها طائفٌ من
الرّبّ و سي ڨدّور مشغول بعدِّ ركعاته السّبعة عشر.
آثار أظلاف البقر تملأ المكان
فكأنّه للناظر ساحةٌ انشطرت فيها آلاف القنابل.
و أصابه صمّ و بكمٌ و اكتمل
العُميُ فلم يدْرِ ما يفعل، و حمله الغيظ على جناحه حتى وجد نفسه في "ڨريشة"
جاره.
كان الجار قد أنهى أشغاله
اليومية و اتّكأ و لوحَةُ خشبٍ في يمينه يُذكي بها النار ليسمع وشوشة البرّاد و يستسيغَ هناء أيّامه.
أغلب النّاس يسخرون و يضحكون
مما تمثّله صورة برّاد علاه السّخام و رَهّفَ قعره صهد النّار فراح ينفث آلامه من
أنفٍ معقوفٍ و صراخُه طَرَقاتٍ بقبضتيه على رأسه. و لكنّهم لا يفقهون، أهل المدينة
لا يعرفون، ذلك أنهم لا يُجيدون الإصغاء و إنّ في آذانهم لوقرا.
و لكنّ سي ڨدّور في عالم آخر
الآن، عالم احترقت فيه كلّ براريد الأرض و تفحّمت و عادت أثرا بعد عين.
هرع الجار يستقبل جاره و بينهما
أواصر قرابة و خبز بملح.
أمّا الإمامُ فكانت رأسه تغلي
أشدّ من غليان ذاك البرّاد و كان الإستقبال البشوش كتلك المروحة تهيل على الجمر
هواء باردا فيلتهب. من ينظر إلى الإمام الآن يخاله طيْرَ يمام قذفته رياح الصحراء على غير أهبةٍ و ألقته في أوج الرّبيع فقامَ يُغرّدُ نافخا أوداجه و نافشًا ريشه ليرهبَ بها خصما
منافسا.
عم ابراهيم الجار اللّدود، و
أحد الأقاربِ العقارب، بارد كالليالي البيض، لا يغضب و لا يتأثّر، و لو سرى تحته
حَنشٌ و هو جالس لرفسه بمقعدته و ما تحيّر.
اهتزّ سي ڨدّور و انتفض و أرغى
و أزبد و احْمرّ و ازرقّ فاسودّ ثمّ عاد فاصفرّ كقطعة خشبٍ ملتهبةٍ كُُشطتْ بماءٍ
بارد، تششششش!
كلّ هذا و عم ابراهيم واقف لا
يتحرّك و لا ينبسُ و لا يطرف و لا ترفّ له شعرة.
ببطئٍ تكلّم، كأنه يخشى أن تتحوّل
الكلمات في فيه إلى قطع نقود:
-يا سي ڨدّور يهديك الله!
علاش تغضب و يطلعلك الدّم!
البڨرات بڨرات ربّي يا سي ڨدّور
و الفولات فولات ربّي و إنت
تعرف آش قال ربّي يا سي ڨدّور
و بڨرات ربّي كلاو فولات ربّي
آش صار بش تتغشش؟!
لن تشعُر بغبنٍ في حياتك أكثر
من هذا!
بعد كلّ هذه السّنين و رغم وفاة
عم ابراهيم الذي أسرّ الإمام لمقرّبيه حينما بلغه النبأ: "شرّ و طار"-
فإنّه لازال كلما تذكّر الواقعة ضرب كفّا بكفّ و استعاذ بربّ الفلق.
Commentaires
Enregistrer un commentaire