Accéder au contenu principal

"الكارثة" و الشرّير و الحسناء


 في زمان كانت العصافير تتكلّم، عاشت فتاة جميلة في كوخٍ بعيد حيطانه من قصب بالقرب من بركة ماء تنحني عليها الأغصان لتحميها من الشمس و تجتمع عندها العصافير كل مساء لتخطط مسار الصباح.
تُحدّث الطيور الفتاة عن أسفارها البعيدة و العواصف و الجبال و الصحراء و عندما يُنير الفجر وجه البركة تتركها تتأملّ حسنها المرسوم على صفاء الماء قبل أن تُكسّره موجة رقيقة و تدفعه إلى النّهر.
ذات صباح قررت أن تجمع شظايا صورتها و ترسلها مع العصافير إلى السّماء، و من السماء سترى العواصف و الجبال و الصحراء و الغيوم و فارسا يفتح الطّريق للشمس.
الشّرّير، من مكان مرتفع وقف يراقب المشهد وراء عدسة المنظار، لاحت له الجميلة تسير على حافة النهر و عيناها مثبّتتين في الماء ثم تنحني لتلتقط شيئا و من حين لآخر تحسُر عن ثوبها و تغوص بقدميها لتنتشل من القاع بريقا كالجوهرة.
في الإمتداد المقابل حيث يضيع النهر لمح نقطة تترنّح، نمت النقطة و أوحى له الشكل الجديد بكارثة تقترب.
شيئا فشيئا تأكّد أن المصيبة تعرُجُ في الماء و الوحل.
جاءت المصيبة من بعيد جدا، مصيبة تلبس قبّعة، على شكل رجل.
لم يرفع الرجل- المصيبة قبّعته ليحيّيَ الجميلة و لم يَرمِ عقب السيجارة الخامدة.
جاء يتبع مجرى النّهر و ينحني ليلتقط أجزاء الصورة.
و بين احناءتين التقيا وجها لوجه، و لأنها كانت جميلة لم يتمكن من النظر إليها فانزلقت نظرته على نهديها المتدلّيتين خلال فتحة قميصها الواسعة. و ليتمعّن النظر أكثر فتح عينين ميّتتين.
بدا المشهد خلف عدسة المنظار مثل كارثة حلّت.
لكنّهما لم يتلامسا حتى بالكلمات.
ضحك الشّرّير كمن أصابته هستيريا و لعن هذا الرّديء القادم من بعيد، لكنه قرّر منحه ثلاث فُرص.
**
كان الشرّير خبيرا في مسائل القلوب لذلك اختصر الأتعاب المقبلة و أضمر الشروط الثلاث.
عندما اقترب الفتى الرّديء –الكارثة- خاطبه من من فوق مرصده برحابة صدر:
-جئْ لي بفرو سلحفاة.
قالها و ابتسامة تعلو محياه، ثم جلس يداعب منخريه.
بَهَتَ الفتى الكارثة، كامل حياته البائسة لم يسمع عن سلحفاة لها فرو، لذلك فكّر أن يلجأ إلى الخطّة "ب".
بينما كان يفكّر، سحبته الجميلة إلى حافة البحيرة حيث تسكن السلحفاة العجوز.
في سِني شبابها كانت السلحفاة كثيرة المشاكل و قد أتّهمت أكثر من مرّة بالمرازدة في الطريق العام و العربدة و ازعاج السلطات، لذلك كان سجلّها حافلا و الجميع يتجنّب الوقوع في طريقها، حتى أن وزارات التربية و التعليم المتعاقبة أفردت لها نصّا خالدا في المقرّر الدراسي.
بعد كل تلك الخبرة عاد لها رشدها و سارت في طريق الحكمة، شأنها شأن كلّ السلاحف.
قالت السلحفاة بعد أن أصغت لتوسّل الجميلة:
-با ابنتي، لك عندي ما تريدين!
و فتحت درجا في الخزانة و سحبت فراء أبيض جميلا. قالت:
-بعد أن فزت على ذلك الأرنب المغرور تبادلنا القمصان للذكرى، أهبه لك بكلّ حبّ.
و هكذا حمل "الكارثة" الفرو الجميل و سار يُحاذر أن يُبقّعه الغُبار.
قال الشرّير و قد ذبُلت ابتسامته:
-حسنا... الآن جئني بكأس من دموع الطّيور.
**
 ضحك الشرير و هو يكزّ على أسنانه مستعيدا كامل ثقته السابقة أمام الشاب المصيبة "التسكرة":
-دموع الطّيور
تبسّم "التسكرة" بيأس فظهر جرح قديم بين شاربه و أذنه:
تبكي الطّيور! سمعتها كثيرا من قبل،
ثم أسرّ للحسناء:
-أفضّل الخطّة "ب"... يمكننا دائما اختصار الوقت.
لم تصغ إليه الجميلة، كانت واقفة أمامه و عيناها تحدّقان في السماء و صدرها بارز إلى الأمام و يداها على خصرها بينما كانت بعض نسائم شاردة تهفهف عابثة بشعرها و خصلة رقيقة آثرت البقاء عند طرف شفتيها المنتفختين بالغيظ.
كانت تتأمّل غيمات ترعى في حقول السماء، لمحت خيولا و أفراسا لها جدائل و خرافا بيضاء و مرقطة و بقرات سمانا و...
و فجأة أشارت بإصبعها النحيل إلى سحابة ذات جناحين و منقار طويل تطير ببطئ و تنظر نحوهما:
-هناك!
في تلك اللحظة من اليأس و الحزن بكت الغيمة.
حين قدّم له ابريق الدّموع كان الشّرير يذرع المكان جيئة و ذهابا، مطأطأ الرأس و يداه خلف ظهره. قال و هو يرمي الإبريق من أعلى التلّة حيث يقف:
-اسمع أيها "الكارثة"، يا أيها "التسكرة" الملعون، أخيّرك بين أمرين... أتعرف قصّة الأسد و القرد؟!
رفع الفتى حاجبا و قال:
-طبعا، الجميع يعرفها.
أضاف الشرير:
-و الدبّ و الأرنب، هاااه؟!؟!
حك الفتى مقدمة رأسه و تمتم متسائلا:
-الدبّ الذي مسح مؤخرته بالأرنب؟!
ردّ الشرير  ساخرا:
-ذاك هو... لهذا أنت مصيبة
شعر الفتى بالفخر للحظة و انتفخ صدره بالزهو لكن سؤال الشرير كان مثل إبرة حادّة:
أخيّرك بين أن تأتيني بصفحة من الجريدة التي كان يقرأ فيها القرد... أو شعرة واحدة نظيفة من شارب الأرنب. انطلق...
و استلّ سيفا من حزامه و تشاغل بتنظيفه.
**
أسقط في يد الفتى.
قهقه الشرير و نفخ حلقات من دخان سيجاره الكوبي الأصلي.
للمرة الثالثة فكّر "الكارثة" في الإستقالة، الاستقالة طبعا من تبعات حمل الإسم. فكّر في فضائل الخطة "ب" و العيش في جزيرة نائية مع الحسناء.
انتبه و الفتاة تقوده خلال أجمة قصب تخفي الجدول:
-لنسأل السلحفاة الحكيمة.
قالت السلحفاة بعد أن علّقت المسبحة في رقبتها:
-اذهبا إلى الأرنب، بيته عند النّبع أعلى البحيرة، بلّغاه تحياتي و اسألاه بلطف عن ابن عمّه.
و هكذا سارا فوق صخور زَلِقَةٍ ببطئ شديد، كان "التسكرة" جنتلمانا بحقّ: ظلّ يمسكها من معصمها برقّة و أحيانا يرفعها بين ذراعيه، لكنه أبدا لم يحاول تقبيلها.
هو في الحقيقة التي تُضمر و لا تُصرّح كان يفكّر في الخطة "ب" حتى أنه عضّ على عقب السيجارة فتفتّتْ بين شفتيه الزرقاوين.
بين صخرتين كان هناك باب كُتب أعلاه Home sweetHome و سمعا شخيرا ناعما و على مدخل الباب بقايا جزر و كرمب عبثت بها الطيور.
طرقا الباب و انتظرا. حين فتح الأرنب الباب كانت عيناه لا تزالان مثقلتان بالنعاس فلم يتبيّن من الطارق. بادراه بالسلام و أبلغاه تحيات السيدة سلحفاة:
-سيد أرنوب، كلنا أمل أن تدلنا على منزل ابن عمّك المسكين ضحية تجبّر الفيل المتكبّر...
حك أرنوب عينيه لحظة كأنما ليستفيق ثم هزّ ذيله قليلا و قال:
-إنّه في الطرف الآخر من الجبل عند السّفح تماما حيث تبدأ غابة السافانا، بيته أحمر اللون و عليه شريط أسود، لكنه لا يقابل أحدا منذ تلك الحادثة اللعينة.
 و أغلق الباب و عاد للنوم.
"تعقّدت الأمور"، فكّر "الكارثة". لو تحوّلت مباشرة إلى الخطّة "ب" كان أجدى!
لكنه تفاجأ و الحسناء قد ألقت بنفسها في البركة و ها هي الآن تسبح أمامه. انتبه بسرعة أنها خلعت ملابسها فجلس على صخرة و بقي هناك يتأملها و قد نسيَ الخطة "ب".
**
"ماذا أفعل هنا!" تمتم "التسكرة"، "مالذي أقحمني في هذه الأحداث الكئيبة!"
أدام النظر إليها، و لوهلة خالَ قطرات الماء دموعَه تنتفض على جسمها الأبيض. وقف في حزم و أشار لها بالخروج:
-الوقت يداهمنا، هيا اصعدي.
صعّدا مع الطريق ثمّ هبطا عبر الفجاج حتى لاحت غابت السافانا و الأرض الصفراء. هناك رأيا البيت الأحمر للأرنب المسكين و عليه علامة سوداء.
لم يجدا فواضل الجظر و الكرمب كما توقّعا، كان كل شيء يوحي بالتقشّف و الحزن.
تلكّأ الأرنب و لم يفتح إلا حين همّ "التسكرة" بخلع الباب. قال الأرنب أنه في حالة اعتصام دائم حتى ينظر ملك الغاب في شكواه و يأخذ له بجقّه من الفيل الظالم. و استرسل في وصف الجريمة و الغبن الذي لقيه بعد أن تلوّثت كرامته و لم تسلم إلا شعرة واحدة من شاربه.
قاطعته الفتاة:
-إن سلّمتنا تلك الشّعرة اليتيمة انتصرنا لك، هااااه ما رأيك؟!
فكر الأرنب و قدّر أنه لن يخسر شيئا، فهي على كل حال شعرة واحدة و سينمو غيرها.
-موافق.
قالت الفتاة:
-هل تعرف قردا يسكن في الأنحاء و يرتدي نظارتين و يُجيد قراءة الجرائد؟
تعجّب الأرنوب:
-أوه، إنه قردون المشاكس "كارثة" القرود... نعم هو يسكن فوق أعلى شجرة هناك في الأسفل.
نظرت الحسناء إلى "الكارثة" الذي بجانبها فإذا هو يبتسم:
-حان دورك، إذهب إلى "الكارثة" الآخر و أقنعه بالقدوم إلى هنا، سأذهب إلى الأسد ملك الغاب و أغويه حتى يبعث في طلب الفيل ثم نلتقي هنا.
**
 كان الأسد حزينا، منذ تلك الحادثة لم يظهر للناس و أوكل مهام الدولة للنمر و الثعلب. ظل حبيس قصره ترهقه الفضيحة و العار. و كان الضفدع ملازما له باذلا ما في وسعه لتسليته و رفع معنوياته. تدبّرت الآنسة الجميلة أمرها مع الضّبع المكلف بحراسة المكان و دخلت تعوده.
في الجهة البعيدة من الغابة كان القرد مستلقيا على غصن عالٍ فوق الشجرة يراقب الحركة البطيئة للغابة غير عابئ بمجموعة الحرس التي تنتظر نزوله منذ مدّة و قد ظلّت مرابطة في الأسفل تضيّق عليه الحركة و التنقّل لكن القرد لم يتوقّف عن استفزاز الحرس و السخرية منهم جميعا.
حينما أبصر "كارثة" القرود "الكارثة" الآخر قادما استوى جالسا و لبس نظارتيه ثم استلّ الجريدة و تظاهر بالانشغال في تصفّح أخبار العالم.
عرفا بعضهما دون أن يتبادلا الكلمات.
أقنعه "التسكرة" أن عليه تسليمه الصفحة التي فيها خبر الأسد، قال:
-أخلاق الزّمالة تفرض عليك ذلك.
في الأثناء كان رسولٌ من القصر يحثّ الخطى في اتّجاه الفيل.
تقابل الجميع عند العصر أمام باب الأرنب المسكين. و جلس الأسد للقضاء.
بطريقة ما كان "التسكرة" و الحسناء يتسلّلان بعيدا عن الحشد و في حوزتهما صحيفةٌ مرقومة تلُفُّ شعرة نظيفة.
تمتم الفتى و هو يرمي نظرة حزينة خلفه:
-أتمنّى نجاة القرد!
بعيدا جدّا، كان الشّرير يراقب الخطوات خلف مرصده البلّوري...
لعن "التسكرة" النّذل القمأ خمسة آلاف مرّة و كسّر كؤوسا و حثا على رأسه ترابا و انتحب من القهر و الغيظ ثمّ قرر أن يُبيّتَ الأمر.
**
في كوخ القصب حملت الفتاة أغراضها القليلة و ألقت خمس شعرات و أوصدت الباب و خرجت. هربا معا.
قال "التسكرة":
-حدّثتك عن منافع الخطة "ب".
رمقته بنظرة قاتلة و دفعته إلى الطريق.
في حقيبتها حملت مشطين و مرآة و كبة خيط و مقصا و واحدا و عشرين حبّة سكّر و عود ثقاب مستهلك.
طرق الشرير الباب بأدب و نادى:
-هل أنت هنا؟!
أجاب الصدى:
-هنا هنا.
لكن الشرير فتح الباب.
طاردهما ممتطيا تيسا أشهب.
اندفع التيس خلفهما مباشرة، و كشفهما ضوء القمر، رأيا التيس ينفث بخارا أسود و يصدر نبيبا كالرّعد و قرناه في وضع الاصطدام.
رمت الفتاة عود الثقاب فتحوّل فجأة إلى سنديانة عظيمة و نطحها التيس فتهشمت و أبطأ من سرعته مع حلول الفجر.
ثم نام الجميع منهكين.
أيقظتهما زقزقة العصافير و دبيب النّمل يجمع حبات السّكّر. أحصتها الحسناء غاضبة فإذا هي ثلاثة عشر حبّة سكر باقية و استبدلت النملات ثماني بذرات فلفل.
فجأة ظهر التيس. كان يعدو عدوا كاملا و قرنه الأيسر يتدلّى إلى جانب أذنه. عندما غرست الثماني بذرات في خطين مستقيمين ظهرت قرون الفلفل تتدلى من أغصانها و توقّف التيس عن العدو ليختار قرنا ملائما لرأسه، و في تلك الأثناء كان "التسكرة" يلهث من الرّكض و سقط عقب السيجارة من بين شفتيه ثم تداعى بجسمه المنهك على العشب في قاع الوادي.
حاولت الجميلة حثّه على التقدّم و بيّنت له فضائل المقاومة و الصمود و أنه من الأفضل أن يموتا معا على أن يستسلما أو يخونا بعضهما. ثم سحبت المشط من حقيبتها و رمته في الفضاء.
عندما سقط المشط انشطر العالم إلى نصفين و نبتت أدغال كثيفة فأخفت الشابين خلف تلك الأغصان المتشابكة.
نتيجة الإعياء المفرط و السقطات المتتالية كان "التسكرة" يفكّر في أشياء أخرى. تملّكته رغبة شديدة في أن يقبّل الحسناء ثم يُدخّن سيجارة كاملة و بعدها ينام.
**
 أكل التيس الدّغل، استنفد كل طاقاته في الجري فتوقّف للأكل.
كان الشرير مثل الراعي النّبيل.
جالسا على الأرض الرّطبة، كانت يداه تمسكان قصبة ساقه بينما برز سوطه من تحت إبطه.
فتح الماعز طريقا نحو الشابين.
هربا مرّة أخرى.
بسرعة، ذرّت الحسناء ما بقي معها من حبات السكر... نمت ثلاث عشرة نبتة و أزهرت. توقّف التيس يتشمم.
قال "الكارثة" و قد استرخت مفاصله المنهكة فجلس على قفاه:
-لقد ظنّ المسكين أنّه الرّبيع!
خطرت للجميلة فكرة. سحبت كبّة الخيط من خقيبتها و بسرعة صنعت ابرة من شوكة. كانت من القلايلات اللواتي يُجدن استعمال الإبرة و الجمال. نسجت شكلا على هيأة أنثى ماعز بعينين واسعتين مغناجتين تغمزان و تتدلّى قصّتها على جبينها. أما الفتى "التسكرة" المنهك فقد بدا كالهرّ الأليف و هو يمسك بطرف الخيط و عيناه تتكاسلان بالنعاس.
حين رمت الدّمية في الهواء و سقطت على الأرض انتصبت أذنا التيس.
لم تنظر خلفها و هي تجرّ الفتى المتكاسل، لكنها سمعت الشرير يرغي و يزبد و يلعن كل الآلهة القديمة و أرباب الإغريق و الأزتاك.
بعيدا في إتّجاه الشمال سارا.
مرّ الظهر و انتهى المساء حتى ناما في العراء. لم تنجح فوضى الصباح و لا لدغات الذباب في ايقاظهما. كان ذلك مبشّرا بالخير لولا...
أقبل الفارس يهمز جنبات تيسه و هما يُزمجران معا، كعاصفة عمياء سقطت من السماء.
قال الفتى:
-أظنّ أن العنز لم تكن جاهزة... التيوس لا تطيق مثل هذه المقالب.
بظرت إليه الحسناء بغضب، يزداد جمالها حين تغضب، بعض النساء لا يفهمن هذا، قالت:
-لم يبق معي غير مشط سأحتفظ به لليلة الزفاف و هذا المقصّ!
و دفعته ليهربا مرّة أخرى.أثناء تعثّره كان يفكّر في أشياء، بل كان فعلا قد جهّز خُطبة عن السلام العالمي و المصالحة الوطنية و لامركزية السلطة في العصر الحديث و ديموقراطية ما بعد الحداثة و حلحلة القضايا العالقة و غير ذلك كثير، حتى أن حمامات السلام تنتفض في أقفاصها استعدادا للانطلاق... كلمات تجعل الأحجار تدمع.
و بدفعة أخرى ذكّرته أنه من الأفضل أن يموتا سويا.
**
اندفع التيس كقديفة مدفع، لكنّه استغرق وقتا، حين أدركهما كانت الشمس تقطر من الظمأ و كان التيس يجترّ لهاثه و الريح تصفّر تحت إبطيه.
في اللحظة القاتلة رمت الحسناء المقصّ...
ارتفع جبلان مسنّنان يلمعان تحت شمس الظهيرة، و عبثا نخس الشرّير تيسه الجامح. حرن الماعز و رفض أن يمد قدما إلى الأمام. لم يعد يهتمّ و غاب المطارَدان كومضة سراب.
وصلا القرية التي فيها منزل "التسكرة".
لما وقفا يتنفّسان أصلح الفتى هندامه و رمى عقب السيجارة في حفرة و تفل عليها.
قالت أمّه:
-هذا ولدي، فلذة كبدي، لا توجد امرأة جديرة به أبدا.
و لتثبت رأيها، رمت المكنسة أمام باب البيت.
حين رأت الحسناء المكنسة في الفناء حملتها و نظّفت الغرف و السطح و بيوت الجيران و ساحة القرية و كامل القرى المجاورة.
تنهّدت الأم:
-نعم، عرفت، هذه زوجة إبني، بإمكاني الآن أن أغمض عينيّ.
و هكذا تزوّجا، و احتفلت القرية و سُكِبَ الشراب و وُزّع الطعام في كل مكان، و غنّت الفرقة حتى انتهى الليل ثم غنّت العصافير و لم تذهب يومها للعمل.
في صباح اليوم الثاني، كان سكان القرية و العصافير لا زالوا نائمين من الصّداع و التّخمة، صنع "التسكرة" زورقا من ورق مُقوّى و دفعه في ماء النهر.
في اللحظة الحاسمة، أمسكته الحسناء.
كان عقب السيجارة يتدلّى من شفتيه و عيناه ترنُوان بعيدا و ليس فيهما حياة:
-الأفضل أن نهربَ معا.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...