في الخارج، يلفظ النسيم
أنفاسه الأخيرة، و أوراق الأشجار عادت مخالبَ من ابَرٍ ستنْشُبُ عمّا قليلٍ في وجه
الهاجرة. تقنيَةُ الطبيعة!
راحت الحافلة تكسر الصمت، و النوافذ مُشرّعة للغبار و الريحِ الناشئَةِ من طريقٍ يُطوى و محرّكٍ يئنّ تَحتَ طَرْقاتٍ تُلهبُ براغيه.
دخلت الحافلة إحدى تلك القرى العائمة في خُضرة الزّيت، مراكبُ من حجرٍ أحمر ألقت مراسيها و تقابلت وجها لوجه، و أعدمها الصمت... لولا نشاز الحضارة.
في مثل هذه السكك لا توجد محطة إلا في خرائط "الكوبانية"1، إشارة للسائق تكفي لفتح الباب، "شدّ هنا"، عند الفلّة أو عند الخرّوبة أو عند المِسرب أو في الدّورة... و كلّها تحمل أسماء.
-"يرحم والديك"
من تحت ظلال خرّوبة انتهت عندها قرية، صعد الحافلة سربٌ من الغزلان يُزيّنها حمارُ وحش. يبدو مما يحملنَ أنهنّ تلميذات يتهيّأن لدورة التدارك تلك.
بقيتْ المشاهد في ذهني بكلّ التناقضات التي يُشكّلها مجتمعٌ مغلق في حافلة لخمسٍ و عشرينَ دقيقة تأمّلتها من مقعدي النائي في ضباب العربة الأخيرة.
بعد التعارف و التحايا مع نساء و كهول صعدوا من نقاط أخرى، ظلّت الفتيات واقفات، كانت الكراسي القريبة محجزوة و كانت هناك فورة الشباب و أيضا ذلك النسيج المطرّز بالثرثرة يغزلنه فيما بينهنّ و يَدْقُقنَ عقَدَه.
فيما كانت الغزلانُ متوشّحاتٍ بخُمُرِهنّ و ملابسهن الفضفاضة، كان حمار الوحش سافرا إلا من خطوطه السوداء التي تمتدّ بعيدا لتخطف الأبصار، حلقاتٌ تتّسع و تضيق ثم تعود للتّسع ثمّ تكلّ الأبصار فتتركها تقع، كحلقات راقصة الجمباز.
من مرصدي، و خلفَ نظّارَتيَّ السوداوين و قبّعتي المائلة على وجهي، بقيتُ أتابع ما أرى.
امعانا في التمويه، تظاهرت بمطالعة كتاب على شاشة الهاتف، "أثرٌ على الحائط" لفرجينيا وولف، كتابٌ أفسده حذلقة المترجمة المصرية فاطمة ناعوت، جنس من النساء بائعاتٌ للوهم كأكمام "قفاطينهنّ" المُطرّزة بخيوط تيّارات الوعي الحداثية التي- بقصد أو غير قصد- نقع في هالتها الجميلة.
راحت الحافلة تكسر الصمت، و النوافذ مُشرّعة للغبار و الريحِ الناشئَةِ من طريقٍ يُطوى و محرّكٍ يئنّ تَحتَ طَرْقاتٍ تُلهبُ براغيه.
دخلت الحافلة إحدى تلك القرى العائمة في خُضرة الزّيت، مراكبُ من حجرٍ أحمر ألقت مراسيها و تقابلت وجها لوجه، و أعدمها الصمت... لولا نشاز الحضارة.
في مثل هذه السكك لا توجد محطة إلا في خرائط "الكوبانية"1، إشارة للسائق تكفي لفتح الباب، "شدّ هنا"، عند الفلّة أو عند الخرّوبة أو عند المِسرب أو في الدّورة... و كلّها تحمل أسماء.
-"يرحم والديك"
من تحت ظلال خرّوبة انتهت عندها قرية، صعد الحافلة سربٌ من الغزلان يُزيّنها حمارُ وحش. يبدو مما يحملنَ أنهنّ تلميذات يتهيّأن لدورة التدارك تلك.
بقيتْ المشاهد في ذهني بكلّ التناقضات التي يُشكّلها مجتمعٌ مغلق في حافلة لخمسٍ و عشرينَ دقيقة تأمّلتها من مقعدي النائي في ضباب العربة الأخيرة.
بعد التعارف و التحايا مع نساء و كهول صعدوا من نقاط أخرى، ظلّت الفتيات واقفات، كانت الكراسي القريبة محجزوة و كانت هناك فورة الشباب و أيضا ذلك النسيج المطرّز بالثرثرة يغزلنه فيما بينهنّ و يَدْقُقنَ عقَدَه.
فيما كانت الغزلانُ متوشّحاتٍ بخُمُرِهنّ و ملابسهن الفضفاضة، كان حمار الوحش سافرا إلا من خطوطه السوداء التي تمتدّ بعيدا لتخطف الأبصار، حلقاتٌ تتّسع و تضيق ثم تعود للتّسع ثمّ تكلّ الأبصار فتتركها تقع، كحلقات راقصة الجمباز.
من مرصدي، و خلفَ نظّارَتيَّ السوداوين و قبّعتي المائلة على وجهي، بقيتُ أتابع ما أرى.
امعانا في التمويه، تظاهرت بمطالعة كتاب على شاشة الهاتف، "أثرٌ على الحائط" لفرجينيا وولف، كتابٌ أفسده حذلقة المترجمة المصرية فاطمة ناعوت، جنس من النساء بائعاتٌ للوهم كأكمام "قفاطينهنّ" المُطرّزة بخيوط تيّارات الوعي الحداثية التي- بقصد أو غير قصد- نقع في هالتها الجميلة.
...
وقفت الفتاة وحدها، كما لتتزيّل، أفزعها اهتزاز
العربة و هي تجاهد حُفر الاسفلت، فاحتضنتْ تلك السارية التي بلون الفضة.
ربّما لم ينتبه أحد، لا أدري. كانت الحافلة تغصّ بشباب و كهول و عجائز، كلّ إلى غايته في المدينة. لعلّ طباع القرية غير طباع المدينة، و لكن ألا تلعب عيون الشباب فأمرٌ بدا لي غريبا بعض الشيء، قلت قد يكون بسبب انشغالهم بسماعات الهواتف أو بثقل أجفان سهرت حتى الفجر، قلت أيضا لعلّها خيبة أمل أصابت حمار الوحش الشارد.
وجهها كقمرٍ صينيٍّ أسدلَ اللّيلَ خلفه في موجة واحدة، هكذا، لينتعشَ فوقه القمر، و تركه ينهمر . تكحّلت بلا كُحل –خلاصَةُ الليل قطْرَةٌ على طرف مرود- و الورد لا أدري أيُّ طلّ سقاه بدموع الفجر و رحيق نجوم الصيف و ثمّة ثمرتان قُطفَتا غضّتين من جنّات المدار.
الأسودُ ليل، على المرأة أن تشْبِكَ فيه جواهرها هيَ و ليس تلك التي تُحدِثُ بريقا.
تهبّ نسمات، ليس إلى أيّ مكان، تعبُرُ من شبّاك إلى آخر فتتوهّجُ بمرورها أضواءٌ في عتمة الليل و تَنْثرُ مثل لؤلؤاتٍ على أسيل.
مُربّعٌ و أربَعُ زوايا، اثنتان انتحرتا عند الترقوتين و امّاعتا مثل مرمر سقط عليه ظلّ شاحب لحبّتي أسيرولا و أمسكته زاويتان قائمتان كي لا يسيل، فتحوّل مغتاظا إلى نِصْفيْ اجّاصةٍ نفرتا حين قررت جاذبية الأرض كبح الجماح... "القانون أوّلا!"، أحسب حينها أمّنا الأرض صاحت.
نصفا اجّاصةٍ نهرَهما ثقل الحياة، يتيمانِ يرتعشان عند كلّ زجرةٍ فيتدثّرا بفراء الوحش و يناما حالمين بأناملَ لها شفاه من حرير.
ما كان لي أن أقمع الشاعر، فتركته يقتبس حتى تحترق تلك الأنامل المستيقظة في عينيه.
لم يتحرّك الفتْيان و لا تنسّم الكهول شيئا من ذاك الأريج، و لا النسوة غِرْنَ.
و كان للفتيات رأيٌ آخر.
ربّما لم ينتبه أحد، لا أدري. كانت الحافلة تغصّ بشباب و كهول و عجائز، كلّ إلى غايته في المدينة. لعلّ طباع القرية غير طباع المدينة، و لكن ألا تلعب عيون الشباب فأمرٌ بدا لي غريبا بعض الشيء، قلت قد يكون بسبب انشغالهم بسماعات الهواتف أو بثقل أجفان سهرت حتى الفجر، قلت أيضا لعلّها خيبة أمل أصابت حمار الوحش الشارد.
وجهها كقمرٍ صينيٍّ أسدلَ اللّيلَ خلفه في موجة واحدة، هكذا، لينتعشَ فوقه القمر، و تركه ينهمر . تكحّلت بلا كُحل –خلاصَةُ الليل قطْرَةٌ على طرف مرود- و الورد لا أدري أيُّ طلّ سقاه بدموع الفجر و رحيق نجوم الصيف و ثمّة ثمرتان قُطفَتا غضّتين من جنّات المدار.
الأسودُ ليل، على المرأة أن تشْبِكَ فيه جواهرها هيَ و ليس تلك التي تُحدِثُ بريقا.
تهبّ نسمات، ليس إلى أيّ مكان، تعبُرُ من شبّاك إلى آخر فتتوهّجُ بمرورها أضواءٌ في عتمة الليل و تَنْثرُ مثل لؤلؤاتٍ على أسيل.
مُربّعٌ و أربَعُ زوايا، اثنتان انتحرتا عند الترقوتين و امّاعتا مثل مرمر سقط عليه ظلّ شاحب لحبّتي أسيرولا و أمسكته زاويتان قائمتان كي لا يسيل، فتحوّل مغتاظا إلى نِصْفيْ اجّاصةٍ نفرتا حين قررت جاذبية الأرض كبح الجماح... "القانون أوّلا!"، أحسب حينها أمّنا الأرض صاحت.
نصفا اجّاصةٍ نهرَهما ثقل الحياة، يتيمانِ يرتعشان عند كلّ زجرةٍ فيتدثّرا بفراء الوحش و يناما حالمين بأناملَ لها شفاه من حرير.
ما كان لي أن أقمع الشاعر، فتركته يقتبس حتى تحترق تلك الأنامل المستيقظة في عينيه.
لم يتحرّك الفتْيان و لا تنسّم الكهول شيئا من ذاك الأريج، و لا النسوة غِرْنَ.
و كان للفتيات رأيٌ آخر.
...
في عيون الاخرين نصنع سجوننا.
في عيون الاخرين نصنع سجوننا.
الهواء في الاعلى و في الاسفل يحيط بالفتاة، يعزلها عن
الاخريات، كلُفافَةٍ من جليد شفّاف يجعل الملامح اكثر صفاء و اكثر استساغة للأكل،
لكنه لا يلتهمها. ليس للهواء اعين و لكن الاخريات لهن، أنياب تخرج من كُرات سوداء،
تكشّر عن جوعها و تتحول أغطية الرأس القاتمة إلى جلود ثعابين عليها بثور تُصفّر، و
تسقط الضحّية في الحلبة كزهرة تحتمي ببرعمها. رجفة اليد سلاحُك، فقط دعي الحياة
تتشبث بالفرح و تتقلد خطوط حمار الوجش. نعم، وصلتني تلك الرجفة! عبرت الأثير مثل أمواج
تسونامي جارفةً أمامها جذوعا من أشجارٍ و رؤوسا
من حجر.
ما لا يجب رؤيته هو رأس منكّس و عينان مغمضتان، عيونهن
في عماء ثور مهزوم، فتثبتي زهرتيْ عباد الشمسِ عاليا في السماء.
خيالات مختبئة في كراتها السوداء، شخوص مجوّفة تجترّ
هزائمها السابقة و اللاحقة معا، أنت لا تعرفين هزيمة التاجر حين يشتري أوهام نفسه،
و لا خيبة المسافر حين يحطّ رحال خياله فوق غيمة لا تتحرك. أنت ثابتةٌ كالحياة،
نابضة كالشّمس، و تلك الرجفة بين أصابعك زمجرة عاصفة تستعدّ.
أحسبُ أنّ النبضات تتسارع
كقطرات مطرٍ حارق فتذيب الجليد المتيبس من حولك، حوّليها إلى خناجر، و افتحي بها كُوّةً
بحجم عصفور لم تنبُتْ جناحاه بعد. تنمو الجناحان عند الحاجة، لهذا تطبر العصافير،
و تُرفرفُ الأفكار. الأفكار... ها أنا أرى وابلا من الأفكار ينهال على جبينك و أنت
تتخيّلين البداية، أراها حروفا و كلمات كأجنحة القدّيسين.
نعم كنت أتلصص، و كانت شظايا الزجاج الجليديّ المتكسّر
تصل حمراء لتتشظى أكثر عند قدميّ و لا يمكنني لدقة غيظها إعادة جمعها.
و كنت أسمع و لا زلت ثرثرتك الحانقة و ضجيج تلك الرّوح التي تُحاولُ خرق التحصينات و اتلاف
غزل المصيدة، نعم، إنّ الغُرَزَ محكمة، و البداية طرف خيط.
و أوّل الأشياء! ما أوّل
الأشياء؟ خطوة، كلمة، صورة... شيءٌ تافه يأتي صدفَة، و دائما ما يكون أوّل
المفقودات و أكثرها غموضا.
عضت تلك الثمرة، فتدفق منها عصير ثمرة الغواية، تلك التي
اخرجت ادم من الجنة مقطوع اللسان، و الشّعراء من نسله لا زالوا يهيمون.
لا تزالين
صامتةً تتأمّلين الحياة، الجميلُ هو صمتك، و سلاحك رعشةٌ بين الأصابع و ليس
قناعًا. أأسمع
Commentaires
Enregistrer un commentaire