Accéder au contenu principal

في الكتّاب

 "الحمدوللاهي-ربِّلْعالمينا-الرّحمانرْ_رَحيمي-مالكي يومِدّيني..."

تعلو الأصوات و تهبط كسِلّيَةِ نَحل وقت الضّحى، و النغمة واحدة تضبطها عصا المِدّب المتربّع على جلدٍ مقلوب فوق دكّة علوّها شبر لُبّست بالجير الأشهب- جير فرنسا- و عليها آثار أصابع معوجّة.
في صيفنا تصير الظلال الغامقة حلما، يأكل الضوء الألوان، حتى الأبيض. أصفر التراب لا غير، كالقصب القديم أو التبن إذا رَنَّخَه البول.
الكُتّاب بيت مستطيل فيه شَبه بالبيوت الأندلسية أو المراكشية أو الحفصية أو الدمشقية أو كلها معا، بحجارته الكذّال و أقواسه الصفراء و البئر التي في الوسط، و المُصلّى الذي يُزيّن لخَتمة ليلة القدر و زَرْدَتها اللّيلية، و على عقد الباب منقوش "إن المساجد لله..." رغم أن لا أحد يسمّي الجامع مسجدا، في الأصل هو زاوية لشيخ –و ما أكثر الشيوخ و الشّيخات عندنا، جاد بهم الدّهر التركي فكُبّت قبابُ بيزنطة على التوابيتَ و لمعت النجمة مع الهلال.
الحيطان عريضة و قصيرة مرصوصة يسند بعضها بعضا نخََرها الندى و الشمس فبَوّطت الليقَةُ و بوّقت و تهَسْهست حتى عشّشَت فيها الخنافس و صنعت منها السّدّاية  مَنادِفَ من حرير، و لِساعة القضاء غفلة!
الوَهج غربيّ ينفخ فتعلو الشمس و يشتعل الهواء فيسطَع وجهَ المدّب و يقْطُر العرق.

"إييياكا نعبودو-و إياكا نستاعينو..."

يمسح العرق بطرف لحافه الترابيّ -و العصا لمن وسوس له ابليس- يمكنها بقدرة قادر أن تصل قعر السقيفة، تشويه على رأسه أو أصابعه -و يتمخّط.

"اهديــنَصّراطلْ_مستقيمي..."

تصل الشمس إذا اقترب نصف النهار من فوق السطوح القصيرة إلى كامل الزاوية الجنوبية و تملأ صحن الكتّاب فتلمع الألواح المطلية بالطّفْلِ الأصفر و تفوح رائحة الماء الغثّ في الحوض المنقور في الصخرة الصفراء الكبيرة و فوقها تتطاير ذبّانات عطشى و من حين إلى حين تُفرقِعُ فقاعة صفراء امتلأت بأنفاس الزغلان.
تكفيك لوحة يصقلها النّجار بمعرفته و الخَميِسيّة. أما الحبر فيصنعه المدّب بيديه في العادة، من لديه غَلَمٌ* يقصّ ما تلبّد  و تدلّى من وسخ في رقاب النعاج. يحرق المدب تلك الأوساخ حتى تتفحّم ثم يذيبها في الماء و بقلم القصب يخطّ سورة اليوم على اللوح بخطّه المغربيّ المُذَبّبِ حدّ التفكّك، كتابة كأنها طلاسم طارت من اللوح المحفوظ فاختلطت الفاء بالقاف و الياءُ فيها كدجاجة كَرَكَت على سطر من عَظَم أو دونه.

"صراطلْ_لذيناْ-أنعمتا عليهمْ..."

بعد أن بَهَزَ الهواءُ في وجه المدّب و أفرغ لهبَه في السقيفة ثقُل حتى لامس القاع، و زفّرت نسمةُُ باردة من تحت بابٍ لا نعرف ما وراءه، يتنَعْوَشُ المدّب فيرتعش و يتجلول في ثوبه بيد واحدة و العصا ثابتة ثبات الحيطان.

"غَيْرِلْ_مغضوبيْ-عليهم..."

هنا يرُخُّ المايسترو بالعصا قليلا.

"و لضّآااالّين..."

و تتحرّك العصا إلى فوق، إلى السماء، و تعلو و تعلو سبع طبقات حتى تُجنّح.

"أاااااميييييين"

و تهبط العصا على قاع السقيفة و هي تَزْوِي كفرخ الزّرب. و يفتتح:

-"لم يكنْ_".

و تعلو الدُّوَّةُ من جديد:

"_لْ_لَذين كفروا مِ نَهْلِ..."

الآن يدخل بعضي في بعضي و يدور زُحل برأسي و تَذهب عني الشّيرة و يتخبّل الغَزَل.
إلى اليوم لا يزال فعل "طهر" يعني المقصّ و ما أدراك ما المقص، و التّفاحُج في جبّة بيضاء خوفا من العطب. أكره تلك الصورة.
-سيدي... استريح
سيدي المدّب طيّب، لا يهشّ و لا ينشّ و لا يضرب أحدا، مرّت على يديه أجيال و أجيال، ما أن يحفظ أحدنا القصار حتى يُسلّمه للمدّب الآخر حيث الزّلقة بفلقةٍ، الجميع يكرهونه، و من يهرب يُكَرُّ من أذُنه كالجحش الحرون، و القصعة تجيبه كما يقال، حكم القويّ!

"... يتلو صُحُفا مطهّره..."

لا أحد يعرف كيف هي مُطهّرة و لا كيف طُهّرت و لا من طهّرها، على الأقل أذكر ثابتا الطهّار و كيف يعمل و النسوة يزغردن، لا بل لم تغب عنّي صورة ابن عمي الذي يكبرني و هو يُطهّر القط الأسود.

"و ما أمروا إلا ليعبدوا... "

و الصّيف هنديٌّ و كرموس و بسيسةُ شعيرٍ بالعَبّود، و تظهر أمامك صورٌ ثم تتكسّر فيستسلم خيالك الصغير، و تنفُض أفكارك و ترجع للغناء.
بعد ذلك في المدرسة علّمونا العبادات و كيف الربّ يشنق الكفّار و من يعمل الحرام من رموشهم و يشويهم في جهنّم.
في الخارج، ركنٌ خَرِبٌ على قارعة الطريق كان أبد الدّهر بوّالةً لتلاميذ الكتّاب، لا يَيْبِسُ ترابها و لا يشيح ثراها، و تسيل منها ساقية بين المادَّةِ و المُزَفّت حتى تشفطها عروق النّجم و تبخّرها الشمس في الرّيح.
مرّات و مرّات، و بعناد الصّبيان، نخرج أكثر من واحد و نلتقي هناك. شُرْرْرْرْ حتى تفيض الغدران و يبلغ السّيل الزّبى، و في العناد كَيْفٌ!

"... و يوتوا الزكاة و ذلك دين القيّمة..."

الحائط أيضا مسكين!
من يصل بوله أعلى من الآخرين!
و ترخى السراويل في حينها و كلٌّ عمّارتُه في يده كالمدفع ترمي الحائط بشآبيب من ماء دافق، و تُمسَك الأنفاس فتنتفخ العروق و تتقوّس الظهور و تتطاول الهامات على أطراف الأصابع... و القلوب أصفى من سماء الصيف.
"بالَ بهيمٌ، بالَ أخوه، و من لا يبول يلعن أبوه"
يتمتم أحد المارّين و يكمل طريقه.
تنفخ الريح فلا تُبقي على الحائط غير أقواسٍ من ملح و رابحٍ و خاسرين و فرصة أخرى في الغد.
يجيء يوم الخميس و لا أحمل همّ الخَمِيسِيَّة، بعضهم يُحضر بيضا، حارَةُ عَظْمٍ حمراء، لم تكن دجاجاتنا تبيض عظْما أبيض و لا دجاجات الجيران و لا أبعد من ذلك، فكل دجاجة تبيض كل يوم عَظْمَةً بلون التّافون البُونيّ، لهاذا فهي عظمة لا بيضة، يقال لأنه لو مشى فوق العظمة جمل لما فقسها، أما العتّوقات فيَسْلِحْنَ في أغلب الحالات. آخرون يُبيّضون كفّ المدب بقطع من النحاس الأصفر مسختها حكومات الجمهورية الثانية إلى قزدير مطليّ -كخيالات الصّحراء.
سيدفع جدّي الخَميسيّة ما دام راضيا.
-سيدي جُعت!
واحدا بعد واحد، كلّ إلى أمّه، كسرة خبز من فَضْلَة البارحة تشُخُّ زيتا أو مرقا و ألذّها على الإطلاق إن حُشيت بالفلفل الأحمر و سفّةِ ملح و يعترضك بعض الرفاق و تذوب الكسرة بينهم و لا يبقى إلا الزيت يقطر من الأصابع. أما إن شبعت فتقبّلها و تلمس بها جبينك و تتخلّص منها بالحلال ليخزنها النمل أو تتعارك عندها طيور البزويش و ربما عايرك أحدهم بقوله "شَبْعَة عربي على كرموسة".

"... أولائك هم خير البريئة... "

و ما أثقل الهمزة و الهمزُ للبهيم و المُجراب، أما الأحرار فغمزة تكفي.
و كما تتبدّد سحابة الصيف البيضاء، تتبدد الظلال الصفراء و يقيل الشيطان على بعبوصه و نقيل معه، أما المدّب فيقيل على ذيل لحافه.
يحلى اللعب بالكُرْكازة إذا خلا الشارع من النّاس و الكراهب، تدور العجلة فتضرب على الزّفت الذائب و تقدح النار كلما لامست ذراع الحديد.
"علولو باعْ فطورو، بخمسه دورو، مشى للمركز، طاح يتكركز."
يفوت العصر و ينكسر الظلّ و تبرد العشيّة شيئا فشيئا.
جدّتي من شق الباب في تخليلتها السوداء و منديل الصوف بحاشيتيْه الزرقاوين يهفهف في مجرى الهواء تستعجل قريباتها من العجائز الأخريات، عمتي حليمة و أمي عيشة و دادا لطيفة و خالتي فاطمة تراءيْنَ واهنات و قد أثقلتهنّ السنين، و ها هن يدْبين محنية ظهورهنّ، و على خَطْوِهنّ تدْرُجُ للا خديجة في حايِكٍ بين البياض و الصّفرة و قد أسدلت على رأسها منديل الصوف و معها كنّتها حبيبة ضاربةً الغَمْبوزَ في السفساري الحريريّ الجديد.
الطريق خالٍ إلا من أصوات الذّرّ يلعبون في البطحاء. شدّتني الجَدّة من يدي لما صارت النسوة عند الباب و مشينا نحو الجبّانة.
يقسِم الجبّانة طريقٌ من حجارة صماء في حجم عظمة دجاج الهند يظهر أنها من عمل الفرنسيس، في القمّة بناء من حجر أحمر، من غير شكّ قُلعت الحجارة من الخربة تحته و التي غطّتها قبور قديمة تخالف قبلة اليوم و رُصّفت حجارتها على شكل قَبْوٍ مستطيل، و في الأقبية تُدفن الأسرار.
علّق صاحبي و أنا أدفعه بين القبور:
-أوه! قبور قديمة.
-قبور مسلمين.
-لكنها ليست على قبلة القيروان!
-ههه قبلة ما قبل الأتراك، وُجّهت بالضبط إلى حيث إيلياء وراء البحر، هل سمعت بإيلياء؟
-آاااه؟!
-إيه...
تضيع الآه و الإيه في الريح، و أجرّ صاحبي لنهبط حيث يقف الناس للعزاء.
في تلك الزحمة وشوش لي: "لماذا يرشّون ماء الزهر في آخر الصف هناك؟"
يغسلون أيديهم من الميّت، أما سمعت كيف يفعل اليهود في الجنائز!؟
-آاااه!
تضيع آهُـه هذه المرّة بين آحاديث الناس، و أغسل يدي من الذين ابتلعهم التاريخ.
و نهبط... حتى حين.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...