هوى القمر خلف التلال فأبطأ الرّكبُ قليلا سَيْره، و
بإشارة من قائد الرّحلة شكّلت الجِمال دائرة كثعبان يأكل ذيله و أوقِدت بعض نيران
تدرأ خطر هوامّ الليل، فلمعت البطحاء و انعكس نورها في الوجوه.
على الأرض تتشبّثُ الحُمّيضة
لتترك للسيل طريقه فتبدو كأنّها جُزُرٌ
طفَت، أتخيّلها خنقها الملح حتى ازرقّت و خضّب الشيب نواصيها.
قريبا، تململت قُصيْباتٌ
في أجماتها و قد تقَصّفتْ وُرَيْقاتها و صبغتها صُفْرَةُ الخريف بينما توسّد
الحنظل الثرى و التحف أوراقه كأخطبوطٍ يحضنُ بيضه.
برز أبو بُشيلة من خلف
أرومة سمارٍ فبدا كفارس ينثُرُ كنانته و يخترق جيوش الظلام و قد أضاءت النار وجهه،
ثمّ إذا به ينحني لينفض حُصيّاتٍ تسرّبت بين سُيور نعله، فصحت:
-كأنّك يا أبا بُشيلَة بين
سَمُرات الحيّ ناقف حنظل، أنظر تحتك ترَ بعر الماعز كأنها حبّ فلفل...
نظر نحوي كأنه يستشفّ
سُخرية قد تظهر على وجهي، و قال:
-جئتك من مقدّمة القافلة
بنبإ يقين، هلمّ معي يا شيخ فإنّي عبّدت لك الطريق
-ليس قبل أن تُفصح، فإنّي
لا آمن أن تجرّني معك إلى فضيحة و نواقيس!
و سحبته حتى صرنا بعيد عن
القوم. قال:
-إني وجدت امرأة تغار منها
الشمس و القمر و بين يديها خدم و حشم و جوارٍ يأتمرون بأمرها فتذكّرت نبيّ الله
سليمان و قلت لا تليق النبوّة من بعده إلا بزكرة و رحت من فوريَ ذاك أدعو لدعوتك،
و ألهج بالحمد لك، حتى فتح الله لي طرفا من الخباء فكرعت من الأريج و الضياء،
فبادر قبل أن تُشرق السّماء.
قلت:
-ننظر في الأمر، لعلّ فيه
الخير...
زيّنت
لي نفسي ما زيّنت و ركبت فرس الخيال حتى جنّحت، و لما رآني صاحبي قد صفنت هزّني
بيده و علامتا مكر ترتسمان في طرفي عينيه.
أملت
عمامتي على جبهتي ثمّ احتبيت جُبّتي و التقطت عودا و رحت أخطّ به في التراب. رسمت
مربّعا حصرت فيه غاياتي ثم خرقته بسهم فيه ريشات و أحطت بالكلّ زهورا و طيورا و أشياء
أخرى ألقتها شياطين الهوى و الأماني إلى يدي، و جدّفت في ذلك النور الذي لا يراه
غيري و يحجب عني القافلة و اللعينَ أبا
بُشيلة و البطحاء و السفر و الدنيا حتى ابتلعتني اللّجّة.
غرقت
في أحلام اليقظة لولا أن مدّ صاحبي يده و سحبني، فإذا القوم يرتحلون و إذا الفجر
يستشري في الأفق، و أسرعت إلى راحلتي.
قال
أبو بُشيلة:
-لنتجاوز
هؤلاء حتى نجاور أصحابنا، فاجعلني شيطانك كما جعلتك ملاكي.
-أخزاك
الله إنّك مُهلكي، فقل لي من تكون التي تسجد عندها الشمس و القمر!
راح أبو بُشيلة يعرض عليّ ما عرف،
و يسرد ما استشفّ، و يبالغ في الوصف، و هو في ذلك ينتقي الكلمات، و يعضدها
بالحركات، يُثبّتني كي لا أفرّ، و لا يعلم أن الأمر قد استقرّ.
قال:
-هي ابنة تاجر يقال له أبو عوانة،
جاء من المشرق و طاب له بالقيروان المقام و هو أيضا ضليع في الفلسفة و الكلام، و
اسمها نظام.
-قتلتني يا لُكع! قم إلى العمل و
أرني الجمل، زكم الله أنفك!
و سرنا نحثّ
الخَطْوَ و نُزاحم مَنْ قبلنا حتى تَفَسّحَ لنا المكان، و فضح النّسيم العَطِرُ
مكنونَ الحجاب.
Commentaires
Enregistrer un commentaire