ذات ضحًى مُكفهرٍّ كوجه
عجوز خَرِف لقِيَني أبو بُشَيلةَ منحدرا من صُوّةٍ لي ناحية الجنوب. قال:
-لي حاجةٌ في الرّحيل، فما عُدت أطيق هذي الجُدُر تُطبقُ على صدري و تَعْرِصُني كالتّيسِ يُخشى إفسادُه، فجهّز نفسك للطريق.
سرنا لا ننَبْسِ حتى أشرفنا على الحيّ فتناهتْ إلى مسامعنا دُوّةَ السّوق و صراخ الأطفال و جلبة الطّرُق و الحوانيت و زكمتْ أنوفنا روائح الدّخان و القدور و المزابل تجتمع كلّها و تتآلف ككُبّةِ خيْطٍ ترتفعُ و تعلو ثم تتفتّح فإذا هي غلالةٌ زاهيةٌ من قُيودٍ بألوان الطّيف.
قلت:
-يا أخي، إنّ لي أعمالا و أحوالا فأنظرني حتى أسْلُك، فإذا خَلُصْتُ منها خَلُصْتُ إلى الطّريق.
قال "نعم"، و صوّبنا نُحاذي ما اجتمع من الدُّوّار عند أطراف البساتين، فإذا بنا أمام قومٍ ينصبون القواطين و يضربون من الطّين الطّوابين، و ذَرٌّ حفاةٌ يلهون مع الجِراء و نسوة يقدحن في الأثافيِّ للغداء.
تسمّر أبو بُشيلة في مكانه و وجهه قبلة النّجْع، فنظرت فإذا هي أنثى كانت ترد الماء و عادت و في يديها الدّلاء.
قلت و قد أخذ مني الغضب حتى كدت أشيط:
-لا أعرفك حتى أسوّي ما عليّ.
و ثَمّةَ فارقته و ابتعدت حتى تواريت خلف بناء فوقفت أرقب عمله فإذا هو يحمل عنها السطلين و ما أن صار في فناء القوم حتى كأنّه أقامم، و لمّا استبطأته سرْسَبْتُ في الدّروب حتى كنت في منازلي أعدّ عدّة الترحال.
-لي حاجةٌ في الرّحيل، فما عُدت أطيق هذي الجُدُر تُطبقُ على صدري و تَعْرِصُني كالتّيسِ يُخشى إفسادُه، فجهّز نفسك للطريق.
سرنا لا ننَبْسِ حتى أشرفنا على الحيّ فتناهتْ إلى مسامعنا دُوّةَ السّوق و صراخ الأطفال و جلبة الطّرُق و الحوانيت و زكمتْ أنوفنا روائح الدّخان و القدور و المزابل تجتمع كلّها و تتآلف ككُبّةِ خيْطٍ ترتفعُ و تعلو ثم تتفتّح فإذا هي غلالةٌ زاهيةٌ من قُيودٍ بألوان الطّيف.
قلت:
-يا أخي، إنّ لي أعمالا و أحوالا فأنظرني حتى أسْلُك، فإذا خَلُصْتُ منها خَلُصْتُ إلى الطّريق.
قال "نعم"، و صوّبنا نُحاذي ما اجتمع من الدُّوّار عند أطراف البساتين، فإذا بنا أمام قومٍ ينصبون القواطين و يضربون من الطّين الطّوابين، و ذَرٌّ حفاةٌ يلهون مع الجِراء و نسوة يقدحن في الأثافيِّ للغداء.
تسمّر أبو بُشيلة في مكانه و وجهه قبلة النّجْع، فنظرت فإذا هي أنثى كانت ترد الماء و عادت و في يديها الدّلاء.
قلت و قد أخذ مني الغضب حتى كدت أشيط:
-لا أعرفك حتى أسوّي ما عليّ.
و ثَمّةَ فارقته و ابتعدت حتى تواريت خلف بناء فوقفت أرقب عمله فإذا هو يحمل عنها السطلين و ما أن صار في فناء القوم حتى كأنّه أقامم، و لمّا استبطأته سرْسَبْتُ في الدّروب حتى كنت في منازلي أعدّ عدّة الترحال.
مرّت أيامٌ لا يرِدُني فيها خبرٌ عن صاحبي حتى قلت جفا أو أنبت عروقًا في الثّرى.
و كان يومُ جُمعةٍ و النّاس تزّاحم في السّوق فلا يعلو على الدينار إلا الغبار. جاء يسعى كالمستجير عاضّا على طرف ثوبه و قد نحل جسمه و كاد يُمحى رسمُه و بدا الفزع في طرفيه فأشحت بوجهي عنه أغالب قهقهَةً اندفعت في حلقي و أصنع غضبا يليق بالمقام. و ما أن انتهى إليّ حتى قرفص قبالتي و أمسك يديّ و رعشة تنساب بين أصابعه كالمحموم. قال:
-الساعة نرحل!
-كأنّك تريد الهرب يا أبا بُشيلة؟!
-من خاف نجا، لا تسخر مني يا ابن نافخ.
-ليس قبل أن تقصّ عليّ القَصَص، فهات خبر الدّلاء و الرّشإِ و الرّشاء!
فنظر إليّ كالمستعطف يرجو أن أعفيَه و ما كنت أعفيه، قال:
-و الله ما أيسر ما كان! ما هي إلا غفلة سَنَحَها الشّيطان حتى وجدتني أجذب ما تثنّى و إذا بالمرود في المكحلة...
قاطعته:
-و علام خوفك و فزعك، و هذا إبليس قد نفعك؟!
سحب نفسًا إلى خياشيمه و مسح بلسانه شفته و تنهّد ثم قال:
-ما أن نَضَدْتُ السّرج حتى دخلت علينا امرأةٌ كالبلّور و قد تزَيَّتْ بالسّفور، و إذا بها تطلب العدل، و الإنصاف في البذل و إلاّ صرخت و ولولت، و ظلّت كذلك تتهدّد و تتوعّد، إن لم نُشركها في المقعد، لتجمعنَّ على رأسي أمّةَ محمّد!
كدت أستلقي من الضّحك غير أني أشفقت على هيبتي و وقاري، فقلت:
-أما قلت لي ذاك اليوم أنّ هذا أمرٌ أبحت فيه دماءك؟!
-بلى، قلت
و أنشد:
أبَحْتُ دمي أريدُ ساعَةَ عِشْقٍ
و هانت حياتي بين غرْبٍ و شَرْقٍ
و لكنَّ لا مُقامَ لي إذْ رَشَفْتُ
رضابَ الجنى إلاّ كَلَمْحَةِ بَرْقٍ
أجوب القُرى و الفيافي أصيدُ
الظّبا، و أنفي لا يُبارى بِسَبْقٍ
-قبّحك الله، و تريد أن تحشرني معك و أنا الشّيخ المَهيب، أكملْ عليك الخزْيُ فقد شوّقْتني!
-ثمّ لبثتُ في الخباء أسبوعا بلياليه لا قدرتُ أهربُ و لا هان عليَّ التفريط في النّعَم، حتى فطن لوجودي أحد العضاريط فكاد يرديني لولا أن تسللت، و ها أنا بين يديك.
-تذهبُ الآن إلى الشّوّاء تتغذّى ثم تعرج على الحمّام تتوضّى ثم البيت تتهدّى حتى إذا غربت الشمسُ لحقْتَ بي عند سبّالة الدّجِّ لعلّنا نسلُكُ طريق الحجّ.
عندها قام أبو بُشيلة إلى الظّلال يتبعها كأنّما يلبس الجدران يتستّر بها حتى اختفى.
و قمت أعدّ راحلتي.
عند البئر انضممنا إلى
تجّار يريدون البحر.
بدا أبو بُشيلة رائقا مُشرق الوجه كأنّ لم يمُسّه الرّعب و لا الخوف، لكنّه اكتفى بالصّمت. في صباه، كانت أمّه تدعوه "القُطّ"، و القطّ لا يتوب و لا يتّعظ و إن هلكت أرواحه السّبع.
في السّماء الآن يطلعُ نصفُ قمر فيضيء ما عبّدت الأقدام في الأرض و يُمرّغ الظلال في التّراب بينما، في الخلف، احتضن دخان المواقد أذان العشاء و هاما عشقا في الأثير.
أدركنا قافلة مثقلة ببضائع قيروانية فاختلط وقع الأقدام بالحداء و الزّجل و الصّراخ و الغبار حتى ليبدوَ للرائي كأنّ عُدوتيْ الوادي أطبقتا على سراب.
ظلّ أبو بُشيْلةَ مُطْبَقَةً شفتاه، و عاضَ صَمْتَه تبارُقُ عينيه في فجوة اللثام.
على حافتي الطريق احتجبت السّواني خلف طوابيها و أحكم الرّتَمُ سدّ الخُلل بينما وقفت بعض شجيرات الطرفاء تُرفرف كأنما تُحذّرنا مغبّة هتك الحِمى.
مرّت ساعة أو تزيد، تثاءب القمر و همّ ينحدر، و هبّ نسيمٌ عطِنٌ من الشّرق فرأيت أبا بُشيلة يميط اللثام عن أنفه. رفع سبّابته قدّام وجهه فاتّسَعَ منخراه كقصبتين عششت فيهما نحلتان برّيتان، لبث كذلك أمدا ثم مال ناحيتي و أشار بيده إلى أنفه و جانبيْ صدره، فخُيِّل إليّ أنّي أدركت قصده و هممت أسأل لكنّه همز بعيره و مضى تاركا خلفه الغبار.
في سحابة الغبار تلك رُسِمت إشارة صاحبي صورةً... لقد شمّ ريح أنثى.
هوى نصف القمر منهكا حتى مسكته قمم الهضاب ناحية الغرب فاستقرّ تاجا على رأس كبيرتها و ساد الظلام الواديَ و برقت الهوادج فجأة تُهدهد رموشا سَهّدها الفراق و سهّرها الشوق إلى أحبّة أشباحهم لن تغيب أبدا.
و في الأفق الشماليّ، و خُطوَةً بخطوة، استرخت عدوتا الوادي حتى هدأتا و تشرّعت أساريرُ الطريق فإذا هو سهل كأنّ ترابه الملح.
بدا أبو بُشيلة رائقا مُشرق الوجه كأنّ لم يمُسّه الرّعب و لا الخوف، لكنّه اكتفى بالصّمت. في صباه، كانت أمّه تدعوه "القُطّ"، و القطّ لا يتوب و لا يتّعظ و إن هلكت أرواحه السّبع.
في السّماء الآن يطلعُ نصفُ قمر فيضيء ما عبّدت الأقدام في الأرض و يُمرّغ الظلال في التّراب بينما، في الخلف، احتضن دخان المواقد أذان العشاء و هاما عشقا في الأثير.
أدركنا قافلة مثقلة ببضائع قيروانية فاختلط وقع الأقدام بالحداء و الزّجل و الصّراخ و الغبار حتى ليبدوَ للرائي كأنّ عُدوتيْ الوادي أطبقتا على سراب.
ظلّ أبو بُشيْلةَ مُطْبَقَةً شفتاه، و عاضَ صَمْتَه تبارُقُ عينيه في فجوة اللثام.
على حافتي الطريق احتجبت السّواني خلف طوابيها و أحكم الرّتَمُ سدّ الخُلل بينما وقفت بعض شجيرات الطرفاء تُرفرف كأنما تُحذّرنا مغبّة هتك الحِمى.
مرّت ساعة أو تزيد، تثاءب القمر و همّ ينحدر، و هبّ نسيمٌ عطِنٌ من الشّرق فرأيت أبا بُشيلة يميط اللثام عن أنفه. رفع سبّابته قدّام وجهه فاتّسَعَ منخراه كقصبتين عششت فيهما نحلتان برّيتان، لبث كذلك أمدا ثم مال ناحيتي و أشار بيده إلى أنفه و جانبيْ صدره، فخُيِّل إليّ أنّي أدركت قصده و هممت أسأل لكنّه همز بعيره و مضى تاركا خلفه الغبار.
في سحابة الغبار تلك رُسِمت إشارة صاحبي صورةً... لقد شمّ ريح أنثى.
هوى نصف القمر منهكا حتى مسكته قمم الهضاب ناحية الغرب فاستقرّ تاجا على رأس كبيرتها و ساد الظلام الواديَ و برقت الهوادج فجأة تُهدهد رموشا سَهّدها الفراق و سهّرها الشوق إلى أحبّة أشباحهم لن تغيب أبدا.
و في الأفق الشماليّ، و خُطوَةً بخطوة، استرخت عدوتا الوادي حتى هدأتا و تشرّعت أساريرُ الطريق فإذا هو سهل كأنّ ترابه الملح.
....
Commentaires
Enregistrer un commentaire