Accéder au contenu principal

بعض خبر أبي بُشيلة 5

-أهيَ هيَ؟!
قلتُ و أنا أشدّه من ذراعه و أدفعه ليفسح الطريق.
-هي و ربّك... هي بعينها و نهدها.
تمتم و راح يهذي ثم مرقَ من بين يديّ كسهم طاش من رمية مرتعشة في لحظة خبل.
تالله لقد جِبْتُ الأرضَ شَليلَةَ مَليلَةَ، و دُرْتُها من شِقِّها إلى مِقّها، و نَسْنَسْتُ عن الشّقيقةِ من أحوالها و الرّقيقةِ و مَرقت من خشائشها و زَرَفْتُ في خوارجها و جِبت البرّ و البحر و فجاج الخَلاء و سنّدتُ و هنّدت و أدجرت و أسريت و أضحيت و أسحيت و أصحيت و ما عرفت مثل أبي بُشيلة يرمي نفسه فلا يهاب أو ينزِع.
رحت أقلّب وجهي بين نُصُب السّوق و في وجوه الناس و عيني تتبع صاحبي و الجارية.
ثم جاءا إليّ و قد غدت الوردة و كأنها نبتت في جنّة بين ربوتين، فانتثر شذاها ضعفين.
قالت الجارية:
-مولاتي تجدد الدعوة و تستعجل الميعاد و ترجو أن لا تخيّبا الظنّ!
-أبلغيها سلامنا حتى نلتقي، و ما كنا نخلف موعدا لازلنا نتقلّب على اللظى نستدني ثوانيه، فانطلقي في حفظ الله.
و مضت الجارية تطرف و بسمة تتلألأ على ثغرها و الوردة ترتعش على نحرها و أبو بشيلة كأن عينه ثُبّتت في غمزة و سِنّه تُدمي شفته من عضّة و ذؤابات شعره مُستنفَرَة كإبر الشّوك.
أفرغت الرّياح وهجها و عادت كما نفَسٍ نُشِقَ من منخر، و عدنا نقتل الوقت في الأزقة و الدروب حتى توارت الشمس في حجابها فعدنا إلى الفندق.
قلت:
-يا أبا بُشيْلة ما هديّتك؟
-أنا الهديّة، و ما غير أنا يُجزي؟!
-قبّحت من هدية، أما إني لا أرضى أن أُستضاف صفر اليدين.
-لهذا دَسَسْت قَدري في بَلْغَتي و ما أسدلت عمامتي إلا للمُخاط.
-ما أصبرني عليك!
و قمت أفكّ الرّباط أتخيّر ما يليق بالمقام حتى سمعنا المؤذّن يدعو للعشاء فأسرعنا نستخلص الأجور و نسجّل أسماءنا مراءً- في الحضور.

***
الشّفَقُ كدجاجات شردت من بِنّيتِها فوأت إلى أثَرةٍ من دفءٍ خلّفتها الشمس.
و شَرَقَ البحرُ فلفظ قمرا أصفرَ و بُخارا و سِرِْبَ غرانيق منهكة.
و التحفت الأرض بالليل و أفردت ضفائرها و نامت.
كان أبو بُشيلة هادئا كليلة صيف، و كنت أرقِلُ على خُطوة منه كالمحموم، و وقْع خطونا على الدّرب له وجيب و عرائشُ الياسمين و الفلّ أرعبتها صفرة القمر فطرحت ظلالها واهنة على الجدران و فزعت بنَوْرِها تتضرّع إلى بعيدِ السّماء.
فجأةً، استدار أبو بُشيلة على ساق واحدة كزهرة عبّاد شمس فصار قبالتي وجها لوجه، و لمحت في عينيه بريق الشّرر يتطاير كقبس بالكاد غطّاه رماد، و ومضت نابٌ كخفقة نجم، و قال:
-متى صرنا في الدار فلا شأن لك بي، كألاّ عرفتني!
و كأنه علم ما سيكون، تبّا له ما مشى الكلب حافيا!
و انتهينا إلى عتبة البيت، و كان الباب مفتوحا على مصراعيه و مشاعلُ تتكسّر أضواؤها على حوّة النبات و الشجر فتتعانق الظلال، و ولجنا في الممرّ.
كان عند الباب غلام، أحسب أني رأيته يسير في ظل بعير سيدته ذاك الصباح، فجوّز بنا رواقا دون أن ينبس و لو همهمة، حتى سلّمنا إلى الجارية تلك، صاحبة أبي بُشيلة، و كان هناك خدم في جيئة و ذهاب و مصابيح معلّقة تبدد الظلام و يخترق الهواءَ شذى بخور رقيق و نسيم منعش يسّاقط من بعض الكوى.
دفعتني الجارية بيد من حرير، و ابتسامة خجلى من شفتين كالسفير تتخفى خلف وشاح من أثير، حتى صرنا عند فناء مسقوف و في إنائه نافورة و هدير، و كأني غُيّبَ عني الوعي فلا أدري أكنت أسير طوعا أو أُدفع دفعا، و نسيت صاحبي و ما كان من أمره حتى وجدتني في قاعة أُشرعت نوافذها فتراقصت حولها ستائرها رقص الفراش و الطّير  ساعةَ بين الغروب و الأصيل، و حُبست نجومها الغُرّ في كؤوس من قوارير. و كان هناك أرائكُ و سرير.
و على السرير سيّدة الدار تداعب بيمناها عقدا من لؤلؤ منظوم و عليها من الحُلل ما لا يحاط بالوصف و قد سرحت بناظرها للبعيد كأنما شدّها وميض في أفق لا يحدّه بصر.
و كان وجهها كالبدر يحجب كل تلك النجوم، و لتبدو الكلمات في عَوَزٍ، فلنحفظ للحروف ماء وجهها و نضربَ صفحا عن البيان و نستسلمَ للسحر، و ما كان كان!
فلمّا انتبهت قامت وجلى و لمحتُ رَفّةَ رقيقة على طرف شفتيها و انكشفت خصلة فحجبت نظرةً ملؤها العناد، كفرس جامحة لا يلين لها قياد.

أسررت في نفسي:" ليتني الليلة أوتيت روح أبي بُشيلة، أو لأستعيرنّ شيئا منها".

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...