-أهيَ هيَ؟!
قلتُ و أنا
أشدّه من ذراعه و أدفعه ليفسح الطريق.
-هي و ربّك...
هي بعينها و نهدها.
تمتم و راح
يهذي ثم مرقَ من بين يديّ كسهم طاش من رمية مرتعشة في لحظة خبل.
تالله لقد جِبْتُ
الأرضَ شَليلَةَ مَليلَةَ، و دُرْتُها من شِقِّها إلى مِقّها، و نَسْنَسْتُ عن الشّقيقةِ
من أحوالها و الرّقيقةِ و مَرقت من خشائشها و زَرَفْتُ في خوارجها و جِبت البرّ و
البحر و فجاج الخَلاء و سنّدتُ و هنّدت و أدجرت و أسريت و أضحيت و أسحيت و أصحيت و
ما عرفت مثل أبي بُشيلة يرمي نفسه فلا يهاب أو ينزِع.
رحت أقلّب
وجهي بين نُصُب السّوق و في وجوه الناس و عيني تتبع صاحبي و الجارية.
ثم جاءا
إليّ و قد غدت الوردة و كأنها نبتت في جنّة بين ربوتين، فانتثر شذاها ضعفين.
قالت
الجارية:
-مولاتي تجدد
الدعوة و تستعجل الميعاد و ترجو أن لا تخيّبا الظنّ!
-أبلغيها
سلامنا حتى نلتقي، و ما كنا نخلف موعدا لازلنا نتقلّب على اللظى نستدني ثوانيه،
فانطلقي في حفظ الله.
و مضت
الجارية تطرف و بسمة تتلألأ على ثغرها و الوردة ترتعش على نحرها و أبو بشيلة كأن
عينه ثُبّتت في غمزة و سِنّه تُدمي شفته من عضّة و ذؤابات شعره مُستنفَرَة كإبر
الشّوك.
أفرغت
الرّياح وهجها و عادت كما نفَسٍ نُشِقَ من منخر، و عدنا نقتل الوقت في الأزقة و
الدروب حتى توارت الشمس في حجابها فعدنا إلى الفندق.
قلت:
-يا أبا
بُشيْلة ما هديّتك؟
-أنا
الهديّة، و ما غير أنا يُجزي؟!
-قبّحت من
هدية، أما إني لا أرضى أن أُستضاف صفر اليدين.
-لهذا
دَسَسْت قَدري في بَلْغَتي و ما أسدلت عمامتي إلا للمُخاط.
-ما أصبرني
عليك!
و قمت أفكّ
الرّباط أتخيّر ما يليق بالمقام حتى سمعنا المؤذّن يدعو للعشاء فأسرعنا نستخلص
الأجور و نسجّل أسماءنا مراءً- في الحضور.
***
الشّفَقُ
كدجاجات شردت من بِنّيتِها فوأت إلى أثَرةٍ من دفءٍ خلّفتها الشمس.
و شَرَقَ
البحرُ فلفظ قمرا أصفرَ و بُخارا و سِرِْبَ غرانيق منهكة.
و التحفت
الأرض بالليل و أفردت ضفائرها و نامت.
كان أبو
بُشيلة هادئا كليلة صيف، و كنت أرقِلُ على خُطوة منه كالمحموم، و وقْع خطونا على
الدّرب له وجيب و عرائشُ الياسمين و الفلّ أرعبتها صفرة القمر فطرحت ظلالها واهنة
على الجدران و فزعت بنَوْرِها تتضرّع إلى بعيدِ السّماء.
فجأةً،
استدار أبو بُشيلة على ساق واحدة كزهرة عبّاد شمس فصار قبالتي وجها لوجه، و لمحت
في عينيه بريق الشّرر يتطاير كقبس بالكاد غطّاه رماد، و ومضت نابٌ كخفقة نجم، و
قال:
-متى صرنا
في الدار فلا شأن لك بي، كألاّ عرفتني!
و كأنه علم
ما سيكون، تبّا له ما مشى الكلب حافيا!
و انتهينا
إلى عتبة البيت، و كان الباب مفتوحا على مصراعيه و مشاعلُ تتكسّر أضواؤها على حوّة
النبات و الشجر فتتعانق الظلال، و ولجنا في الممرّ.
كان عند
الباب غلام، أحسب أني رأيته يسير في ظل بعير سيدته ذاك الصباح، فجوّز بنا رواقا
دون أن ينبس و لو همهمة، حتى سلّمنا إلى الجارية تلك، صاحبة أبي بُشيلة، و كان
هناك خدم في جيئة و ذهاب و مصابيح معلّقة تبدد الظلام و يخترق الهواءَ شذى بخور رقيق
و نسيم منعش يسّاقط من بعض الكوى.
دفعتني
الجارية بيد من حرير، و ابتسامة خجلى من شفتين كالسفير تتخفى خلف وشاح من أثير،
حتى صرنا عند فناء مسقوف و في إنائه نافورة و هدير، و كأني غُيّبَ عني الوعي فلا
أدري أكنت أسير طوعا أو أُدفع دفعا، و نسيت صاحبي و ما كان من أمره حتى وجدتني في
قاعة أُشرعت نوافذها فتراقصت حولها ستائرها رقص الفراش و الطّير ساعةَ بين الغروب و الأصيل، و حُبست نجومها
الغُرّ في كؤوس من قوارير. و كان هناك أرائكُ و سرير.
و على
السرير سيّدة الدار تداعب بيمناها عقدا من لؤلؤ منظوم و عليها من الحُلل ما لا
يحاط بالوصف و قد سرحت بناظرها للبعيد كأنما شدّها وميض في أفق لا يحدّه بصر.
و كان وجهها
كالبدر يحجب كل تلك النجوم، و لتبدو الكلمات في عَوَزٍ، فلنحفظ للحروف ماء وجهها و
نضربَ صفحا عن البيان و نستسلمَ للسحر، و ما كان كان!
فلمّا
انتبهت قامت وجلى و لمحتُ رَفّةَ رقيقة على طرف شفتيها و انكشفت خصلة فحجبت نظرةً ملؤها
العناد، كفرس جامحة لا يلين لها قياد.
أسررت في
نفسي:" ليتني الليلة أوتيت روح أبي بُشيلة، أو لأستعيرنّ شيئا منها".
Commentaires
Enregistrer un commentaire