Accéder au contenu principal

بعضُ خبر أبي بُشَيْلَة4

ارتفعت الشمس أمامنا فرقص لها النور و الظلّ و تلوّتِ الطريق عبر ما تآكلَ من شِعَبٍ شعثاء و ما ذَبَحت سيولٌ غابرَةٌ في خدّ

الأرض الأبيض.

نادى أبو بُشيلَةَ غلاما يمشي في ظلّ جِحْفَةِ سيّدته و مال عليه مُسِرًّا بشيء و مُشيرا بطرف عينه إليّ، و مضى الغلام حتى طرقَ

 خباء مولاته فانفتح ستارٌ و أطلّت منه جارية -و الله يعلم- كأنّها قُدّتْ من قوارير و نورٍ و عطر، فحدّثها بما حُدِّث، و حدّثتني نفسي 

بما لن أحدّث به أبدا، و أسدِل الحجاب.

و كأنّي غشِيَتْني بهتةٌ فإذا بفمي مفتوحٌ و عينايَ لا تطرفان و يدي تقبضُ على الزّمام و أبو بُشيلة يُكلّمُني و لا أعي ما يقول و لا 

أفقه حرفا حتى لكزني بمقدّم ساقه فانتبهت:

-يا شيخ! يا زكرة! بالله عليك... ما تلك إلا وصيفتها فتجلّدْ و اصبرْ حتى يأتيَكَ اليقين!

مرّرْتُ كفَّي على وجهي و من طرف شَكوةِ الماء رُحت أبلل يدي و أمسح بها جبهتي و رقبتي حتى زال عني ضبابُ الحُلُم و تمالكت 

نفسي أن أقع من ذروة البعير، قلت:

-إنّما من صبرٍ جُبِلْت، و ما كانت قدمي لتزول.

و رُحت أرجع البصر و أسترق النّظر و أختلس نَشَقاتٍ من عطرٍ أشفَقَ النّسيمُ أن يُبدده، و في كَرَّةٍ تناهى إلى مسمعي قهقهاتٌ لذيذة

اللّحن تسرّبت من مسام الهودج و نفشتْ الخَبَلَ الذي صارَ إليه غَزَلي فخفتُ أن يَلْقَطَ صاحبي من النّغم صوتا فيقع في نفسه شيء، 

فعجّلت أقول:

-لئنّ هذا العطرَ من شُغل الأوّلين! باهظ الثّمن رقيق الطّبع ثقيلَ الأثر لا يُذهبُه الماء و لا يقدر على وَكْإ ضَيْعَته وِكاء و لا يمنع

 أريجه خِباء، أتدري كيف يُعْمل؟!

و مضيت أحدّثه عن عطر الفينيق حتى أوغلَ بنا السّير و الطريق.

قال أبو بُشيْلَةَ بعد أن أفرغت مِزْوَدي من الكلام:

-أتسخر من يا شيخ! والله ما يخونُ المرءَ شيءٌ مثل عينه، و ما يوقع الفارس الصّنديد غير ريح امرأة ذات دَلّ، فاخلع عنك ثوبَ

 البطل، و كُفّ عنّي المَطل، ألا دعني أبيّن لك ما رأيتَ منذ قليل قبل أن تتلبّسك غمامةُ التّله و البله.

-عليك لعنة الأقدمين و خِزْيَ الشياطين ما ألذّ ما أغويت و ما أزينَ ما نسجت، و لو لم تكن الخلّ الوفي لما أرخيت لك القياد و لا 

تبعتك في مَعاد، فهات بيّن ما غَفلَ عنه النّظر و استجاب لك فيه القدر!

قال:

-إنّك رأيتني لما أرسلت الغلام يستأذن لك من سيّدته لقاءً، و قد علمتَ أني قدّمتُ عندها حتى أصابها الشّوق، و لما جاءها 

الرّسول ضربتْ الموعدَ يومَ غد، فتأهّب للقاء.

و سكت صاحبي كأنما أصابه خَرس، و هدأ كلّ ما حولي و إذا بي من خلال الصّمت يُفَتحُ لي بابٌ في الرّؤى لم يُغْلَقْ إلا و صاحبي

 يُمسك خطْمَ البعير و يصيحبي:

-أفقْ يا شيخ! قد وصلنا.

كادت الشمس تغيب و لاحت المدينة كأنّ البحر يسحبها إلى ظلماته و يبتلعها شيئا فشيئا فتتوالى حشرجاتها و تبرقُ ضفائرها تحت 

آخر شعاع للنور، و ترتفع أنفاسها أبخرةً و دخانا لتضيع في حلكة الأعالي و الآتي، و فوضى الأيام.

تفرّق الإبل. صوّب بعضها ناحية الجنوب، و أُخَرٌ صعّدت تبغي الشمال، في حين بقينا نحن تتهادى بنا النّجائب حتى بلغنا ساحة 

السوق حيث الفُندق. و ما أن وضعت رجلي في الرّكاب أروم النّزول حتى أُلقِيَ في روعي أنّا أضعنا الجمل بما حمل، و ناديت:

-بحق الماء و الملح يا أبا بُشيْلَة لا تقل لي أنّك لم تستعلم عن منزل أصحابنا!

و كان أبو بُشيْلة يوثق دابّته إلى حِلْقَةٍ في الجدار، فالتفت باسما و قال:

-ما كنت أبا بُشيْلَة لو فعلت!

و تقّدم حتى تسلّم زمام الناقة و زجرها فبركت و أنا أحاذر الوقوع.

كانت حُجرتنا تطلّ على الطريق العام، و كان الناس في ذهابهم و إيابهم يُسرعون كأنّهم يسابقون الليل فما نظر ناحيتنا أحد و لا 

اهتمّ، و ما للغريب في حُلكة ليل المدينة!

-يا رفيقي و شيطان نفسي و ألعن من عرفت، لو سعيت الآن فتدبّرت لنا حمّاما و أتبعته بطعام لأكون لك من الشاكرين، و أنت 

أعلم مني بالدّروب و ما خَفِيَ فيها من رُكُنٍ و ثُقوب!

-السّاعة ننزل، و لأنزِلنّك حمّاما تسيخُ بعده كالصّبيِّ الوليد، لنمضِ، فليل المدُنِ موحِشٌ و كئيب.

و ألفيت نفسي أجوزُ أزقّة قاءت حُمّى نهارها عَفَنًا على النّواصي و تلاشت أنفاسها بين مُواء قِطَطٍ و عُواءَ كلاب.

كان الحمّام ساخنا كقدرٍ أعِدّت للصّمْط، إن مددت يدك بالكاد تراها و الضباب كمطر الصّيف زخّاتٍ تملأ الخياشيمَ و تُزهق الأنفاس.

 ما أن خلُصتُ نَجيّا حتى التقفني طَيّابٌ غابت رقبته في أمعائه و استولت بطنه على وسطه و تدلّت على أثرها سُويقتان تتذبذبان 

على طرف الدّكّة. و صدق اللّعينُ أبو بُشيلة و هو العارف، ما استسغت بعدها شِواءً و لا مرقا و لا شايا. 

و كان آخر عهدي بصاحبي ينفخ في السّراج لما وَجدتني فجرًا –فجأة، كأنّما نفَخ المَلَك في صورتي مُطلقا روحي من برزخها- 

أحملق في كوّة الحجرة أتأمّل فيْضَ النّور المُنبلج من فجرٍ قريب. و رأيتها و انبثقت الرّؤى بأخيِلَةٍ تتورّدُ على شَفيف الأثير.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

معنى ش ل ب في لسان أهل تونس

شَلَبيّة/شَلْبيّة، شِلْبة، شلْبَبُّو، شْلَبّة المعاجم العربية لا تذكر في هذه المادة غير مدينة شِلب الاسبانية. بينما الواقع يؤكد تداول صيغ عديدة من الجذر "ش ل ب". مدينة شِلب Silbis  أو    CILPES جنوب اسبانيا البِيتِيّة (الأندلس بلغة الشريعة).  [   بيتيّة bétique ، أشم في الاسم رائحة شيء مخفي إذا قارنا التسمية مع vetus ... تتأكد أكثر بالقاء نظرة على مدينة Salapia الايطالية  Salapia vetus ... الأمر متعلّق بأرض قرطاج ]. و لا نعلم شيئا عن الأساطير المرتبطة بمدينة شلب. أَنا لَوْلَا النَّسِيمُ والبَرْقُ والوُرْ ____ قُ وصَوْبُ الغمام ما كُنْتُ أَصْبُو ذَكَّرَتْنِي شِلْبًا وهَيْهَاتَ مِنّي____ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ التَّبَاعُدُ شِلْبُ المعجم الانجليزي (رغم السقطات) يبقى أهم مرجع. إذا قارنّا بين "ش ل ب" و "س ل ب" و الأصل (السنسكريتي) الذي يقترحه المعجم الانجليزي، فإن المعنى يتّضح... sleep أي نام، ضَعُف، غفل،سُلِب الإرادة...      أخطأ المعجم في مقابلة الكلمة بـ "صُحلب" رغم أنه يعرّف saloop على أنها مشروب مخدّر أ...

مقون MAGON

من يذكر أمه أو جدّته و في يدها القرداش لا بدّ يذكر "المقّون/ مڨُّون" و هو جمع ماقونة أو مقّونة و أرجّح ماقونة و جمعها ماقون دون تضعيف حرف القاف، و الأصل هو حرف الڨG و الدليل هو عدد الناطقين به... في جبل نفوسة و شرق الجزائر (قسنطينة) يسمى المقون "قلوم"... جمع قلم أو شكل القلم. تُصرّ أمي، و قد جعلتُها تستذكر تلك الليالي، أن المقّون هو حكرا من الصوف الأبيض و ليس الملوّن أو المخلوط، و إن كانت كلّها مقونات. و هذا التفصيل الدقيق يكون تصديقا لما سيأتي و حُجّةً عليه. بعد غسل الصوف و ندفه و فرزه و تمشيطه تبدأ عملية الغزل، و مقدّمة الغزل هي القرداش و هو تلك الآلة (صورة 1) ذات الأسنان الرقيقة، و بطريقة مُعيّنة نحصل على شكلٍ مستطيل من الصوف يُطوى مباشرة بحركة من إحدى كفّتي القرداش ليتحوّل إلى لُفافة cigar أو قلم ثم يدويّا يُعطى شكل هلال أبيض بقرنين لتسهيل عملية التّطعيم أثناء الغزل (صورة2و 3). بقية المراحل لا تدخل في موضوع هذه الملاحظة. الإشارة الأولى أن اسم Magon يكاد (من المعلومات المتوفرة) يكون حكرا على الطبقة الحاكمة في الدولة و خاصة قيادة الجيش و...
ذات زمان Once upon a time كان يسكن معنا في الضيعة –كلب. له اسم و بيت و آنيتان- واحدة للطعام و أخرى للماء- و عنده رفقة و عمل قارّ و حمّام في الصيف و تلاقيح كلّما مرّ بيطريّ الحكومة. كانت الأتان رفيقته في العمل، و كانت كثيرة الشكوى و الثورة أيضا، أمّا القطّ ففوضويٌّ كسول. وجب عليّ أن أنبّه أن لا علاقة لقصّتي بابن المقفع و لا لافونتين. ذات يوم مزدحم بالأشياء، سها أحدهم فلم يحكم رباط الأتان فانطلقت متحررة من عقال المسؤوليات تنشدُ أفقا رحبا و كلأ طريا و مرتعا ذي زهر و خضرة. القطّ من مرصده الآمن فوق السّقف المشبّك بالعشب الجافّ كان يتابع المشهد بنصف عين و اكتفى بإشارة من يده أنّ الطريق سالك، ثم أطبق الجفن في حين ظلّ ذنَبُه يتثعبنُ دون جرس. ساعةَ غفلة و الكلب يحصي الخراف الثاغية و عينه على مناوشة قد تستفحل بين ديكين، و الأتان كأنها تحملها نسائم الضحى... حتى أخفاها الغياب. بعد ساعة تقريبا خرجت أمي العجوز في جولة تتفقّد الأنحاء، و حين افتقدت الأتان، نادت الكلب باسمه فجاء مرحبا: -أين الأتان يا ابن الكلب؟ و أشارت بيدها إلى المكان الخالي و الحنق يملأها و الحيرة تنهشها، و تكاد أن تنهال عليه بنع...