ارتفعت الشمس أمامنا فرقص لها النور و الظلّ و تلوّتِ الطريق عبر ما تآكلَ من شِعَبٍ شعثاء و ما ذَبَحت سيولٌ غابرَةٌ في خدّ
الأرض الأبيض.
نادى أبو بُشيلَةَ غلاما يمشي في ظلّ جِحْفَةِ سيّدته و مال عليه مُسِرًّا بشيء و مُشيرا بطرف عينه إليّ، و مضى الغلام حتى طرقَ
خباء مولاته فانفتح ستارٌ و أطلّت منه جارية -و الله يعلم- كأنّها قُدّتْ من قوارير و نورٍ و عطر، فحدّثها بما حُدِّث، و حدّثتني نفسي
بما لن أحدّث به أبدا، و أسدِل الحجاب.
و كأنّي غشِيَتْني بهتةٌ فإذا بفمي مفتوحٌ و عينايَ لا تطرفان و يدي تقبضُ على الزّمام و أبو بُشيلة يُكلّمُني و لا أعي ما يقول و لا
أفقه حرفا حتى لكزني بمقدّم ساقه فانتبهت:
-يا شيخ! يا زكرة! بالله عليك... ما تلك إلا وصيفتها فتجلّدْ و اصبرْ حتى يأتيَكَ اليقين!
مرّرْتُ كفَّي على وجهي و من طرف شَكوةِ الماء رُحت أبلل يدي و أمسح بها جبهتي و رقبتي حتى زال عني ضبابُ الحُلُم و تمالكت
نفسي أن أقع من ذروة البعير، قلت:
-إنّما من صبرٍ جُبِلْت، و ما كانت قدمي لتزول.
و رُحت أرجع البصر و أسترق النّظر و أختلس نَشَقاتٍ من عطرٍ أشفَقَ النّسيمُ أن يُبدده، و في كَرَّةٍ تناهى إلى مسمعي قهقهاتٌ لذيذة
اللّحن تسرّبت من مسام الهودج و نفشتْ الخَبَلَ الذي صارَ إليه غَزَلي فخفتُ أن يَلْقَطَ صاحبي من النّغم صوتا فيقع في نفسه شيء،
فعجّلت أقول:
-لئنّ هذا العطرَ من شُغل الأوّلين! باهظ الثّمن رقيق الطّبع ثقيلَ الأثر لا يُذهبُه الماء و لا يقدر على وَكْإ ضَيْعَته وِكاء و لا يمنع
أريجه خِباء، أتدري كيف يُعْمل؟!
و مضيت أحدّثه عن عطر الفينيق حتى أوغلَ بنا السّير و الطريق.
قال أبو بُشيْلَةَ بعد أن أفرغت مِزْوَدي من الكلام:
-أتسخر من يا شيخ! والله ما يخونُ المرءَ شيءٌ مثل عينه، و ما يوقع الفارس الصّنديد غير ريح امرأة ذات دَلّ، فاخلع عنك ثوبَ
البطل، و كُفّ عنّي المَطل، ألا دعني أبيّن لك ما رأيتَ منذ قليل قبل أن تتلبّسك غمامةُ التّله و البله.
-عليك لعنة الأقدمين و خِزْيَ الشياطين ما ألذّ ما أغويت و ما أزينَ ما نسجت، و لو لم تكن الخلّ الوفي لما أرخيت لك القياد و لا
تبعتك في مَعاد، فهات بيّن ما غَفلَ عنه النّظر و استجاب لك فيه القدر!
قال:
-إنّك رأيتني لما أرسلت الغلام يستأذن لك من سيّدته لقاءً، و قد علمتَ أني قدّمتُ عندها حتى أصابها الشّوق، و لما جاءها
الرّسول ضربتْ الموعدَ يومَ غد، فتأهّب للقاء.
و سكت صاحبي كأنما أصابه خَرس، و هدأ كلّ ما حولي و إذا بي من خلال الصّمت يُفَتحُ لي بابٌ في الرّؤى لم يُغْلَقْ إلا و صاحبي
يُمسك خطْمَ البعير و يصيحبي:
-أفقْ يا شيخ! قد وصلنا.
كادت الشمس تغيب و لاحت المدينة كأنّ البحر يسحبها إلى ظلماته و يبتلعها شيئا فشيئا فتتوالى حشرجاتها و تبرقُ ضفائرها تحت
آخر شعاع للنور، و ترتفع أنفاسها أبخرةً و دخانا لتضيع في حلكة الأعالي و الآتي، و فوضى الأيام.
تفرّق الإبل. صوّب بعضها ناحية الجنوب، و أُخَرٌ صعّدت تبغي الشمال، في حين بقينا نحن تتهادى بنا النّجائب حتى بلغنا ساحة
السوق حيث الفُندق. و ما أن وضعت رجلي في الرّكاب أروم النّزول حتى أُلقِيَ في روعي أنّا أضعنا الجمل بما حمل، و ناديت:
-بحق الماء و الملح يا أبا بُشيْلَة لا تقل لي أنّك لم تستعلم عن منزل أصحابنا!
و كان أبو بُشيْلة يوثق دابّته إلى حِلْقَةٍ في الجدار، فالتفت باسما و قال:
-ما كنت أبا بُشيْلَة لو فعلت!
و تقّدم حتى تسلّم زمام الناقة و زجرها فبركت و أنا أحاذر الوقوع.
كانت حُجرتنا تطلّ على الطريق العام، و كان الناس في ذهابهم و إيابهم يُسرعون كأنّهم يسابقون الليل فما نظر ناحيتنا أحد و لا
اهتمّ، و ما للغريب في حُلكة ليل المدينة!
-يا رفيقي و شيطان نفسي و ألعن من عرفت، لو سعيت الآن فتدبّرت لنا حمّاما و أتبعته بطعام لأكون لك من الشاكرين، و أنت
أعلم مني بالدّروب و ما خَفِيَ فيها من رُكُنٍ و ثُقوب!
-السّاعة ننزل، و لأنزِلنّك حمّاما تسيخُ بعده كالصّبيِّ الوليد، لنمضِ، فليل المدُنِ موحِشٌ و كئيب.
و ألفيت نفسي أجوزُ أزقّة قاءت حُمّى نهارها عَفَنًا على النّواصي و تلاشت أنفاسها بين مُواء قِطَطٍ و عُواءَ كلاب.
كان الحمّام ساخنا كقدرٍ أعِدّت للصّمْط، إن مددت يدك بالكاد تراها و الضباب كمطر الصّيف زخّاتٍ تملأ الخياشيمَ و تُزهق الأنفاس.
ما أن خلُصتُ نَجيّا حتى التقفني طَيّابٌ غابت رقبته في أمعائه و استولت بطنه على وسطه و تدلّت على أثرها سُويقتان تتذبذبان
على طرف الدّكّة. و صدق اللّعينُ أبو بُشيلة و هو العارف، ما استسغت بعدها شِواءً و لا مرقا و لا شايا.
و كان آخر عهدي بصاحبي ينفخ في السّراج لما وَجدتني فجرًا –فجأة، كأنّما نفَخ المَلَك في صورتي مُطلقا روحي من برزخها-
أحملق في كوّة الحجرة أتأمّل فيْضَ النّور المُنبلج من فجرٍ قريب. و رأيتها و انبثقت الرّؤى بأخيِلَةٍ تتورّدُ على شَفيف الأثير.
Commentaires
Enregistrer un commentaire